علّمونا أن نخاف

عَلَّمونا أن نخاف..

IMG-20160123-WA0026تجليّات  الخوف عديدة وأعراضه مختلفة وأسبابه ومسبّباته كثيرة. علّة بين العلل عالي المقام، ومسمّم السهام والسنان. له ألف قناع وقناع ويتلوّن بتلوّن الظروف والأيام.. كاره الضوء، طارد الحلم، وخليل وسادة الأوهام.

 الخوف، سارق المتعة من حياة صاحبها وسالب النعمة في عتمة ناظرها. وحين يتمكّن من الإنسان، يصبح هو الكائن الحيّ، ويصبح الإنسان له ظلًّا.

والخوف صديق المرض وعشيق الوهم ورفيق الوهن. هو عدوّ الفرح والمرح والاستقرار.

الخوف والزمن حليفان: الأوّل يمدّد وقت الثاني مطيلًا بعمره اللامتناهي لوعةً في انتظار الآتي، والثاني يضخّم حجم الأوّل، على حساب قوّة السكينة الكامنة في الطمأنينة، لأنّه يكبر بتآكلها، ليجعل الإنسان راضخًا مستسلمًا ضعيفًا، معلنًا موت أعصاب الأحلام والآمال، فيكون في المرصاد الخلل والفشل والملل . 

لقد علّمونا أن نخاف من الحقيقة وقولها لأنّها قد تؤدي إلى العمى، فأوقعونا في كهوف الخيبة والرؤية في ضبابيّة الظلال، ولم يعلّمونا أن الكذب على الذات هو العمى الحقيقي.

علّمونا أن نخاف حين نفرح كثيرًا، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى كمّ من الأحزان المريرة. ولم يعلّمونا أنّ الحزن طاقة سالبة مملوءة بالتشاؤم وتهزم بالتفاؤل.

علّمونا أن نخاف من الضحك، وإلّا ستحسب منّا رخصة الرصانة والثقافة التي تتطلّب الكآبة والوجوم. ولم يعلمونا أنّ الرصانة هي عفويّة التعبير في ثقافة الفطرة.

علّمونا أن نخاف من المطامح لأنّها مطامع، ولم يعلّمونا أنّ كيف نميّز بينهما.

علّمونا أن نخاف من التجارب والإقدام لأنّ الفشل سيكون لنا بالمرصاد لتقرع بعدها أجراس الشامتين المنتظرين سهواتنا، ولم يعلّمونا أن النجاحات لا تولد إلا من رحم السقطات.

علّمونا أن نخاف من العتمة حين يحلّ الليل، من الآخر، من الشرّ، ولم يعلّمونا أن نخاف من عتمة قلوبنا والشرّ في دواخلنا.

علّمونا أن نخاف من الموت، ولم يعلّمونا أنّه عبور إلى الحياة.

علّمونا أن نخاف من الله، وأن نعبده خوفًا منه على مصالحنا ومصائرنا ولم يعلّمونا أن نعبده حبًّا به وأنّ الحبّ غاية وجودنا ووجود الكون.

علّمونا أن نخاف من الحبّ لأنّه كاسر للقلوب خؤون، ومفقد للعقول لعوب، ولم يعلّمونا أنّه أجمل عطايا الله به تتمّ أعجوبة الحياة وأغرودة الفرح.

لا يُقضى على الخوف بالاختباء عنه ولا بالهروب منه، لأنّه يغتذي من الاثنين. أمّا البوح به فيزيد من ثقل مروره ورعونة غروره.

إلّم يحمل الإنسان الخوف في قلبه، لن يحمله في عقله وكيانه، لن يجرؤ أن يطارده، لأنّه لم يجنّسه في بلاد أحلامه، ولم يرحّب به لاجئًا أونازحًا أو حتى ضيفًا عابرًا….

أمّا إذا سمح له بالعبور، فسيحمله هو لاحقا، ساخرًا منه ليجعله له عنوانًا ومسكنًا..آتيًا معه بكلّ الوساوس والمخاوف والمآزم، ليوهمه بأنّه حليف السلامة ومدبّر الهروب الى الأمام.

ما الحلّ والخوف مقلق الوجود ؟

قد يكون الحلّ وعي قيمة اللحيظات وتصنيع وقت الأمل بخواتيم سعيدة بالطريقة التي يراها المرء مناسبة له، أكانت إيمانًا أو شجاعة أو تسليمًا بما لا يد له فيه.

ويتطلّب طرد الخوف خوض المغامرة التي تفرضها الظروف بكامل الثقة بالذات أوّلًا وتاليًا بالآخر…

فلكلّ مرحلة رجالاتها…لهذا تكبر الشجاعة في العقل الذي يتحكّم بالأفعال وردّات الأفعال المبنيّة على إدراك يعرف ماهيّة النتائج.

ليست المغامرة القفز في المجهول والتنصّل من المسؤوليات المترتبة وتعليقها على علّاقة الظرف والحظ، بل هي تجاوز الخوف في عيون من تشدّ المرء إليهم مشاعر الأخوّة والإنسانيّة ومحاولة تبديله بيقين التخطّي في شريعة المنطق تحقيقًا لخلاص جمعيّ لا يؤمن بالخلاص الفردي.

لأنّ الخوف وباء معدٍ، ينتقل بمرور النظرة ويستغلّ ضعف اللمحة.

فتنقلب المغامرة هنا إلى اتخاذ أفضل الممكنات من القرارات في لحظة المباغتة حيث التوقّع يتحوّل واقعًا والشجاعة حينها تكون بتقبّل النتائج والعيش بموجب ما يمكن أن ينطلق منها.

والتسلّح بالشجاعة يكون بالصمود في وجه من يخيف أكان ظرفا أوشخصا أوثرثرة أو موقفًا. بقمع صور انكساراتنا غير المدعوّة الى مائدة الحاضر، وعدم استحضار ماضي هزائمنا القديمة من قبورها.

لا يُهزم الخوف بالصراخ ولا بالصمت الواشي المتقنّع بالحكمة الزائفة، بل يهزم بالمعرفة. ففي المعرفة يكمن المنطق، وللمنطق كامل الغلبة على الوهم، وحين يهزم الوهم، ينسحب الخوف الذي لا يعود ثمّة حجّة لبقائه ولا حاجة، فيخجل ويغيب، وربّما ليتقنّع بوجه آخر…أو ليقبض على ضعيف آخر.

فلا يمكن أن يُهزم الخوف إلّا بأقانيم ثلاثة: حبّ وإيمان ومعرفة.

 

IMG-20160123-WA0026

علّمونا أن نخاف


تجليّات  الخوف عديدة وأعراضه مختلفة وأسبابه ومسبّباته كثيرة. علّة بين العلل عالي المقام، ومسمّم السهام والسنان. له ألف قناع وقناع ويتلوّن بتلوّن الظروف والأيام.. كاره الضوء، طارد الحلم، وخليل وسادة الأوهام

 الخوف، سارق المتعة من حياة صاحبها وسالب النعمة في عتمة ناظرها. وحين يتمكّن من الإنسان، يصبح هو الكائن الحيّ، ويصبح الإنسان له ظلًّا.

والخوف صديق المرض وعشيق الوهم ورفيق الوهن. هو عدوّ الفرح والمرح والاستقرار.

الخوف والزمن حليفان: الأوّل يمدّد وقت الثاني مطيلًا بعمره اللامتناهي لوعةً في انتظار الآتي، والثاني يضخّم حجم الأوّل،IMG-20160123-WA0026 على حساب قوّة السكينة الكامنة في الطمأنينة، لأنّه يكبر بتآكلها، ليجعل الإنسان راضخًا مستسلمًا ضعيفًا، معلنًا موت أعصاب الأحلام والآمال، فيكون في المرصاد الخلل والفشل والملل . 

لقد علّمونا أن نخاف من الحقيقة وقولها لأنّها قد تؤدي إلى العمى، فأوقعونا في كهوف الخيبة والرؤية في ضبابيّة الظلال، ولم يعلّمونا أن الكذب على الذات هو العمى الحقيقي.

علّمونا أن نخاف حين نفرح كثيرًا، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى كمّ من الأحزان المريرة. ولم يعلّمونا أنّ الحزن طاقة سالبة مملوءة بالتشاؤم وتهزم بالتفاؤل.

علّمونا أن نخاف من الضحك، وإلّا ستحسب منّا رخصة الرصانة والثقافة التي تتطلّب الكآبة والوجوم. ولم يعلمونا أنّ الرصانة هي عفويّة التعبير في ثقافة الفطرة.

علّمونا أن نخاف من المطامح لأنّها مطامع، ولم يعلّمونا أنّ كيف نميّز بينهما.

علّمونا أن نخاف من التجارب والإقدام لأنّ الفشل سيكون لنا بالمرصاد لتقرع بعدها أجراس الشامتين المنتظرين سهواتنا، ولم يعلّمونا أن النجاحات لا تولد إلا من رحم السقطات.

علّمونا أن نخاف من العتمة حين يحلّ الليل، من الآخر، من الشرّ، ولم يعلّمونا أن نخاف من عتمة قلوبنا والشرّ في دواخلنا.

علّمونا أن نخاف من الموت، ولم يعلّمونا أنّه عبور إلى الحياة.

علّمونا أن نخاف من الله، وأن نعبده خوفًا منه على مصالحنا ومصائرنا ولم يعلّمونا أن نعبده حبًّا به وأنّ الحبّ غاية وجودنا ووجود الكون.

علّمونا أن نخاف من الحبّ لأنّه كاسر للقلوب خؤون، ومفقد للعقول لعوب، ولم يعلّمونا أنّه أجمل عطايا الله به تتمّ أعجوبة الحياة وأغرودة الفرح.

لا يُقضى على الخوف بالاختباء عنه ولا بالهروب منه، لأنّه يغتذي من الاثنين. أمّا البوح به فيزيد من ثقل مروره ورعونة غروره.

إلّم يحمل الإنسان الخوف في قلبه، لن يحمله في عقله وكيانه، لن يجرؤ أن يطارده، لأنّه لم يجنّسه في بلاد أحلامه، ولم يرحّب به لاجئًا أونازحًا أو حتى ضيفًا عابرًا….

أمّا إذا سمح له بالعبور، فسيحمله هو لاحقا، ساخرًا منه ليجعله له عنوانًا ومسكنًا..آتيًا معه بكلّ الوساوس والمخاوف والمآزم، ليوهمه بأنّه حليف السلامة ومدبّر الهروب الى الأمام.

ما الحلّ والخوف مقلق الوجود ؟

قد يكون الحلّ وعي قيمة اللحيظات وتصنيع وقت الأمل بخواتيم سعيدة بالطريقة التي يراها المرء مناسبة له، أكانت إيمانًا أو شجاعة أو تسليمًا بما لا يد له فيه.

ويتطلّب طرد الخوف خوض المغامرة التي تفرضها الظروف بكامل الثقة بالذات أوّلًا وتاليًا بالآخر…

فلكلّ مرحلة رجالاتها…لهذا تكبر الشجاعة في العقل الذي يتحكّم بالأفعال وردّات الأفعال المبنيّة على إدراك يعرف ماهيّة النتائج.

ليست المغامرة القفز في المجهول والتنصّل من المسؤوليات المترتبة وتعليقها على علّاقة الظرف والحظ، بل هي تجاوز الخوف في عيون من تشدّ المرء إليهم مشاعر الأخوّة والإنسانيّة ومحاولة تبديله بيقين التخطّي في شريعة المنطق تحقيقًا لخلاص جمعيّ لا يؤمن بالخلاص الفردي.

لأنّ الخوف وباء معدٍ، ينتقل بمرور النظرة ويستغلّ ضعف اللمحة.

فتنقلب المغامرة هنا إلى اتخاذ أفضل الممكنات من القرارات في لحظة المباغتة حيث التوقّع يتحوّل واقعًا والشجاعة حينها تكون بتقبّل النتائج والعيش بموجب ما يمكن أن ينطلق منها.

والتسلّح بالشجاعة يكون بالصمود في وجه من يخيف أكان ظرفا أوشخصا أوثرثرة أو موقفًا. بقمع صور انكساراتنا غير المدعوّة الى مائدة الحاضر، وعدم استحضار ماضي هزائمنا القديمة من قبورها.

لا يُهزم الخوف بالصراخ ولا بالصمت الواشي المتقنّع بالحكمة الزائفة، بل يهزم بالمعرفة. ففي المعرفة يكمن المنطق، وللمنطق كامل الغلبة على الوهم، وحين يهزم الوهم، ينسحب الخوف الذي لا يعود ثمّة حجّة لبقائه ولا حاجة، فيخجل ويغيب، وربّما ليتقنّع بوجه آخر…أو ليقبض على ضعيف آخر.

فلا يمكن أن يُهزم الخوف إلّا بأقانيم ثلاثة: حبّ وإيمان ومعرفة.

نشر المقال في جريدة الأنوار في شهر آب 2014..

 

الحياة… رحلة في الضباب

الحياة…رحلة في الضباب
 يعيش الإنسان حياته كالمسافر أبدًا في الضباب. المحطات بين رحلة وأخرى لا بدّ منها لحجز تذاكر السفر وشرائها، هي الوقفات أمام الذات الواعية حينًا والحالمة أحيانًا أُخَر، حيث يتسرّب نور الشمس بين الفصول في تتابعها، وقرار الإكمال لا خيار فيه، إلّا درجة السفر بين اقتصادية ودرجة أولى.
 ومسكين من يعتقد أنّه يختار رقم الرحلة وليست هي التي تختاره.
 ومسكين أيضًا من يكون قد أنهى زوّادته في المحطّة الأولى… لأنّه سيكمل مديونًا أو شحّاذًا ما تبقّى له من رحلات على رصيف الذلّ، أو جائعًا حتى الموت.
هي الحياة سفر في الضباب. وأيّ الأسفار  تخلو من الأروعين ممّا لا يمكن الغفلة عنه: المتعة والمغامرة؟
وأي الأروعين لا يخلو من خطرين؟ الندم والسقوط، حيث لا ينفع الرجوع، فالمحن ولّادة المحن.
والجنون أن تعي مخاطر الرحلة قبل دخولها ومع ذلك تغامر.
 أن تعي أنّ الضباب ليس معطفًا خاطته لك السماء ليقيك من عيون من ينتظرك على مفارق كشح الحالة الضبابيّة والكشف عمّا ارتكبته عند احتجاب الرؤية، ومع ذلك تغامر وتسافر.
وقبل أن تغامر، أنت في كامل وعيك، الذي يخبرك بأنّ الحماقات الكبيرة
لا ترتكب إلّا  في الضباب، لأنّك يا مسكين ستعتقد بأنّك تعيش في السماء، فلن ترى الحفر الصغيرة منها والكبيرة،  فالضباب يعميك عن تحديد الطريق التي تتوه فيها وعنها… فهو تكثيف ذريرات التمنّي، ورفعك الى السماء، واختلاف حرارة شغف الداخل عن نبض الخارج، ولن تشعر بذلك إلّا أوان الخروج…
في مشوار الضباب، أنت لا تعي المسافات التي اجتزتها، ولا تعني لك في الأصل، ولا تعود مقاييس تحدّد لها طولًا و عرضًا أو قربًا وبعدًا… ولا تسمع إلا صوت من ترتضيه مؤنسًا ودافعًا لك في المضيّ. أمّا صوت ارتطامك وارتجاجك فستسمعه حكمًا حين تعرّق الدم البارد من ندوبك عند تغلغل الوجع… لتدرك متأخّرًا ما كان من هذه الرحلة، ناسيًا كلّ روعتها، أو ما اعتقدته كذلك.
روعة الرحلة اعتقادك أنّك ذرّة من هواء، بكلّ لطيف شبيهٌ ماهيّةً وكينونةً، وإدراكك بخلل في قانون الجاذبيّة، تحلّق حيث شئت من الأمكنة التي تمنّيت الوصول اليها دهرًا من دون أن تستطيع إلى ذلك سبيلًا…
 روعتها اعتقادك بقدرتك على التغلغل في أنفاس من تحبّ، والتنقّل بين الأشجار وانتقاء ما شئت من ثمار، والتحليق مع سرب الأطيار، والغناء والبكاء والرجاء.
Screenshot_2015-01-19-09-44-40
ماليزيا 2014
وروعة الرحلة في الضباب، حين تعيش رومنسية الليل بوعودها الودريّة، أينما ترمي رأسك وسائد من ريش الأحلام، ومخادع الحقائق غير النائمة… هناك، يكون التعرّي كاملًا، لأنّ المرآة مخبّأة، لا تفضح عيوب الذات، فالغمام أخ الغمام، والولادات من ماء سماء تقطّر…
النجوم لك حليفةٌ في احتجابها وظهورها، والكواكب متاحةٌ لك طريقها، ومباحةٌ لك أراضيها، ما عليك إلّا أن تطلق عليها اسمًا، إن استطيبت سكناها.
ويصبح التيه عنوانًا وراية، والاتجاهات في مؤامرة مع القِبلة التي في داخلك، البوصلة تحيا كامل حريّتها، يمينا ويسارًا وصعودًا وهبوطًا،  لا معايير لها أو ضبط اتجاه إلا ما رسم لها بعيدًا…
وتبقى رحلة الضباب ذكرى جميلة موسميّة في سجلّ الفصول، وخبرًا يُحكى مسبوقًا ب”كان”، لأنّ الشمس تشرق كلّ يوم، لكن للضباب مواقيت العبور في مواعيد المطر.

Screenshot_2015-01-19-09-44-40

Image

حين يصافحنا الحزن

 

الحزن هو إدمان الخيبة الممتدّة في شرايين الروح التي لم تعد تتدفّق فيها نبضات التمنّي

الحزن هو تجمّع ذرّات من الغرور المتهالك الذي تصدّأ مركونًا على شاطىء الأنا، ولم تعد تقرب منه إلّا موجات المجد المفقود في ذكرى ما كان.

وبين كان وصار، علّة ساكنة وسط ثلاثيّة أبديّة، ساكنة لكنّها محرّكة لمواجع الروح في سكنى خاصرتها من الأزل إلى الأبد،  شامخة لعلمها أنّها بداية ال”أنا” ونهايتها، وهي كلّ علّة لا يستغني عنها ماضٍ أو غد.

الحزن هو عتب الضمير عند اقتراف الفرح، لعدم الأهليّة والاستحقاق شعورًا بالذنب لأحقيّة الآخرين به.

الحزن هو حاجة الزرع إلى مطر بخلت به السماء، وما عاد للإنسان إلّا الدموع سبيلًا ليروي بذار الحبّ المغروسة في زمن الشحّ زوّادة الآتي من الأيّام.

الحزن هو عتب القلوب على قلوبٍ أحبّتها وسكنتها وصارت كلّها، لكن هل يخلو عام من أيلول؟!… فيبقي العتب بعضًا والحزن كلًّا.

أن يكون المرء حزينًا يعني أنّه علّق انتظاره على ساعة الحائط التي تخلّفت رقصتُها عن موعد عينيه، لمواعيد أخر.

الحزن فعل أنسنة الكيانيّة البشريّة عند بعضهم، وعند بعضهم الآخر فعل سلب ما تبقّى من إنسانيّة تشوّهت كردّ فعل عكسي بتمنّي شرب كأس الحزن للجميع.

حين يصافحنا الحزن مرّة، يستعذب السكنى بأيدينا،  فيرمي بحجارته في  بحيرة مواجعنا الساكنة، وتطفو على السطح أسرار الألم دوائر دوائر.

فنبكي على من مات حزنًا ووجعًا على ذواتنا، على ذلك الوقت السليب الذي كتب لنا برفقة من نحبّ، لن يعاد أو يستعاض.

نبكي إذا فرحنا أو نجحنا ولم نجد من نخبره بأفراحنا ونشاركه بها.

نبكي إذا فشلنا ولم نجد من يكذب علينا بأنّنا أصبنا.

نبكي إذا فقدنا براءة الطفولة واستطيبنا تفّاحة سمّمتها شهوة مغامرات المعرفة.

نبكي إذا جرحت كراماتنا في مواقف الذلّ وانكسار الكبرياء عند تسلّط الأقوياء.

نبكي حين نعي أنّنا الغصن الذي خُلع عن أمّه عند التشذيب لأنّه نما بغير اتجاه أخوته، والقصاص معلوم يشهد عليه الثمر في مآتم الشجر.

نبكي حين نرى وجع أبنائنا أو أخوتنا ومن نحبّ، وأيدينا مكبّلة لا تفقه إلّا رفع الأيدي دعاءً لاستبدال أدوارٍ نعي سلفًا أنّها عجائبيّة غير محقّقة.

نبكي حين نرى الشامتين بنا وقد حضروا يشهدون على مآسينا ويدّعون مؤاساتنا لاكتمال أفراحهم.

والبكاء كشهقة الهجران في الحبّ الأوّل، بداية إشارات الحزن، قبل أن يلبسنا جلد التمساح، ويمتصّ المياه، ولا يبقي إلّا طعم الملوحة لتعقيم جراح تنزف قهرًا  ولا تختم إلا في العالم الآخر.

وحين نتوقّف عن البكاء، نعي أنّ الوجع انتهى من مرحلة تخدير المشاعر، وأنّنا دخلنا في مرحلة غيبوبة الإنسانيّة فينا، وصار الحزن وجبة يوميّة ضرورة. والعقل استقال من مهام إيجاد الحلول.

cropped-beach2015.jpg

أصعب ما في الأمر أنّ الحزن والفرح ممزوجان في كأس الوعي، فمتى تمنّعنا عن شرب هذا الكأس، تخلّينا عنهما معًا.

لقد زرعوا الوجع في جيناتنا ورفعوا مقامه وبجّلوه، جعلوه بطلًا، ومفتاحًا لباب السموات، والموروث مقدّس، ولنا من القدّيسين التماهي… وعلّمونا أنّا كنّا يومًا في الجنّة ومنها طردنا، وأنّا كنّا سعداء، حيث لا حزن ولا مرض ولا بكاء، بل فرح وجمال وجلال، وصار مصيرنا أن نحيا تعساء، العين منّا إلى الجنّة تريد العود تنشدها، والروح منّا تعرب عن رحلة تغرّبها. أمّا الطين، فملعون ببحر رغباته غارقٌ يشقى، لا هو راضٍ بما له قسم، ولا الروح به ترضى.

لأنّ الحزن هو من يحيا فينا،  فنعيش فرحنا قناعًا مزيّفًا ونخفي حزنًا عظيمًا، يحمل إقامة غير مؤقّتة، ونبذل جهدًا مضاعفًا لإخفائه، لأنّه جبهة الممانعة في الضمير المتيّقظ لكل متعة في غفلة العقل وسهوة الحياة.

حين يعي المرء حزنه، يعي أن يد الحياة هي التي صفعته حين كان يقرّب وجهه طمعًا بقبلة منها، ليرسم الدرب الآخر إن لم يعجبه درب القدر.

حين يعي المرء حزنه، يعي أنّه يجلس على فوهة بئر الأحزان مموِّهًا غطاءها بأزاهير الابتسامات البريّة الطالعة بين أشواك القندول.

حين يعي المرء حزنه يعني أنّه ذاق الألمين وعلم أنّ آلام الأجساد وُلدت من العَرض لها من العلم دواء، وآلام الأرواح كامنة فيها كمون الجوهر في الأشياء، ليس لها بعدَ  سقمٍ من شفاء، فلا إيمان يحييها، ولا أعاجيب تعافيها.

ناتالي الخوري غريب

..

ميشال الحايك… وأزمة الإنسان المزيّف

 

                            سنون ستّ مضت، على معاد لطالما انتظره، فعبره،(1-أيلول 2005) وها نحن إلى فكره نرنو، نذكر ، ومعه ندعو، إلى امتلاءٍ بعد تجويف، لإنسانٍ عَبَثَ فيه تقليدٌ وتزييف، كان همًّا سكنه، فحاول جهدًا خلع أقنعة، علّ وجودَ بعضٍ ممّن يستمع يتّعظ.

     المونسنيور”ميشال الحايك” هذا الكاهن الموسوعي الشاعر الباحث الواعظ المتعدّد المشارب الفكرية والثقافيّة هو الحاضر الغائب، ولا نقولها من باب المفارقات البلاغيّة لانّنا لسنا في معرض ألاعيب لغويّة، ولأنّ المنطق أيضًا يرفض المفارقات، إنّما نقولها لأنّ حضوره واقع، نعيشه بذكرى صدى عظاته وأقواله ووقفاته على منبر كنيسة القديس جاورجيوس، كلّما علينا اشتدّت رياح فتنة، وعواصف تفرقة.

.

نذكره اليوم واعظًا وهو من اشتهر بمواهبه الوعظيّة، فكان الناس يتجمّعون من جميع الأقطار لسماع عظاته إن في فرنسا، – وأبرزهم جان بول سارتر- الذي كان يقطن في شارع مجاورٍ للحيّ الذي تقع فيه الكنيسة، أو في لبنان، حيث يؤمّ الكنيسة عديد المؤمنين لسماعه، ومَن لم  يتسنّ له الحضور، بديله الإذاعات تبثُّ جميع مواقفه وحكمه وعظاته.. واللهُ منبعها

أوّلًا واخيرًا، ثمّ الأمور الإنسانيّة والوطنيّة، والهدف هو الوصول إلى إنسانيّة حرّةٍ ترقى إلى الله.

نعود اليوم إلى عظاته نقرأها، وما أحوجنا إلى أمثاله في إلقاء ضوء على جرح ينزف، فلا يكتفي بالنظر على تفنّن قولٍ، بل وصف حاضرٍ له جاهدًا يسعى إلى إيجاد حلول.

نعود اليوم إلى مجموعة محاضرات ألقاها، وجمعت العام 1969 من منشورات المطبعة الكاثوليكيّة بيروت، تحت عنوان” رسالة إلى بني جيلنا” نقرأها وعلى الرغم من مضيّ أربعين عامًا على كتابتها، وكأنّه يعاني الآن زيف الإنسان المعاصر في تقليده بعد تجويفه، يقول:  

كذا في العالم الإنسان مجّوف،أمّا عندنا فهو مزيّف يحرّفه التقليد، والتقليد سهولة تأخذ من سطح الأشياء وألوانها وصيغها فتكتفي باللقب عوض الهويّة، وبالنّسَب عوض الأصل، بالقبيلة عوض الشخص، بالممتلكات بدل الأنيّات، وهذا هو التزوير على الحقّ وعلى القيم إذ توضع في غير مواضعها.

ولكثرة ما يزوّر الإنسان عندنا قد أصبحت نفسه مزوّرة، كالعملة، كالفلس المزوّر. نسبته إلى الحقّ كنسبة الذّهب المزيّف إلى الذّهب الخالص.

الإنسان يزوّر في كلّ شيء. في دينه يقلّد السّلف الصالح وليس له من اختباراتهم الوجوديّة العميقة سوى المظاهر يعرضها والطّقوس يمارسها، وقد فرغت من مضامينها الأوّلية…..

   ويقلّد في تفكيره. فما تطلع في العالم فكرة فلسفيّة أو نزعة فنّية أو نظرة سياسيّة إلّا ويقتبسها ويردّدها من خوارجها كانت في مصادرها عصارة جهدٍ وبحثٍ ومأساة حياة عند منشئيها، فإذا هي عنده اقتباس دون جهدٍ، سرقة حلال دون عناء. والفرق بينها عندنا وبينها عند أصحابها هو الفرق بين النّص والنّسخة، بين الواقع وصورته…….

    يقلّد الإنسان عندنا في تفكيره ودينه. يقلّد في دنياه. لا يظهر زيٌّ جديد في اللباس والفنّ والرقص والغناء إلّا وكان له في دورنا وشوارعنا وحاناتنا من يتلبّسون به ويتراقصون عليه. وهكذا فلا نكتفي بتقليد أسلافنا من الأمس بل بمسخ حاضر الغير في تفكيرنا وحديثنا وسياستنا وفنوننا وعاداتنا. ونحن في كلِّ ذلك أخّاذون سرّاقون، شاهدو زورٍ على حقيقتنا، نتلوّن كالحرباء بألوان كلِّ حقيقةٍ عابرة. وإذا صحّ لنا بعض شيءٍ من حلى الشّمائل والجمالات فهي مأخوذة منحولة لو نزعت عنّا لَبانَ ما في نفوسنا من قبائح وعيوب. …

 متى ترى نقلّد أجمل ما في نفسنا بعد أن قلّدْنا الجميع، فننزل صوب الأعماق نستطلع الإنسان الذي شوّه تحت كدس المآخذ والمساحيق. أم حكمٌ على الإنسان عندنا ان يظلّ عبد التقليد لا وليد التّجديد. فالويل للذين كذبوا عليه وغرّروه حتّى خان نفسه، فراح يشهد عليها شهادة زور. الويل للذين قيّموه بغير ما هو، بممتلكاته لا بماهيّته، بالطائفة أو العشيرة التي ينتمي اليها، بالحزب السياسي الذي ينتمي اليه، بثمن الثوب الذي يلبسه والسيارة التي يقتنيها. والويل لمن عوّدوه الرشوة والإباحيّة وأقنعوه بانّ عبادته لله وإخلاصه لدينه يُقاس بزخم التعصّب والبغض الذي يضمره لأبناء الأديان الأخرى. خيرٌ لهم لو يُعلَّق في اعناقهم رحى الحمار ويُزَجّون في أعماق البحر.”(انظر رسالة الى بني جيلنا،صص87-88-89)

           في كلّ مرّة نعود إلى كتاباته ندرك مدى تطلّعه إلى تصديع بعض البنى الاجتماعيّة التي ليس لها ارتكاز فكري وإعادة بنائها على أسس إيمانيّة ذات أبعاد روحانيّة ودعوته إلى إصلاح الإنسان الفرد من أجل إصلاح المجتمع.

         يبقى أن نقول في الذكرى السادسة لانتقاله، إنّ الاب الحايك كان حاملًا مشعل النور التوجيهي داعيًا الناس الى إثبات وجودهم الإنساني بالخروج من ذاتهم المزيّفة ليقفوا بها أمام مرآة أنفسهم، وهو على يقين حتميّ بأنّ الإنسان، إذا تجرّد عن كلّ زيفه الحضاريّ والأخلاقيّ والإنسانيّ، سيحقّق وجود ذاته الإنساني في مستواها الأعلى.

[1]

 

[1] -جريدة الأنوار، السنة 51، العدد 17835 الاثنين 5 أيلول 2005.