حين يصافحنا الحزن
18 Sep 2015 Leave a comment
الحزن هو إدمان الخيبة الممتدّة في شرايين الروح التي لم تعد تتدفّق فيها نبضات التمنّي
الحزن هو تجمّع ذرّات من الغرور المتهالك الذي تصدّأ مركونًا على شاطىء الأنا، ولم تعد تقرب منه إلّا موجات المجد المفقود في ذكرى ما كان.
وبين كان وصار، علّة ساكنة وسط ثلاثيّة أبديّة، ساكنة لكنّها محرّكة لمواجع الروح في سكنى خاصرتها من الأزل إلى الأبد، شامخة لعلمها أنّها بداية ال”أنا” ونهايتها، وهي كلّ علّة لا يستغني عنها ماضٍ أو غد.
الحزن هو عتب الضمير عند اقتراف الفرح، لعدم الأهليّة والاستحقاق شعورًا بالذنب لأحقيّة الآخرين به.
الحزن هو حاجة الزرع إلى مطر بخلت به السماء، وما عاد للإنسان إلّا الدموع سبيلًا ليروي بذار الحبّ المغروسة في زمن الشحّ زوّادة الآتي من الأيّام.
الحزن هو عتب القلوب على قلوبٍ أحبّتها وسكنتها وصارت كلّها، لكن هل يخلو عام من أيلول؟!… فيبقي العتب بعضًا والحزن كلًّا.
أن يكون المرء حزينًا يعني أنّه علّق انتظاره على ساعة الحائط التي تخلّفت رقصتُها عن موعد عينيه، لمواعيد أخر.
الحزن فعل أنسنة الكيانيّة البشريّة عند بعضهم، وعند بعضهم الآخر فعل سلب ما تبقّى من إنسانيّة تشوّهت كردّ فعل عكسي بتمنّي شرب كأس الحزن للجميع.
حين يصافحنا الحزن مرّة، يستعذب السكنى بأيدينا، فيرمي بحجارته في بحيرة مواجعنا الساكنة، وتطفو على السطح أسرار الألم دوائر دوائر.
فنبكي على من مات حزنًا ووجعًا على ذواتنا، على ذلك الوقت السليب الذي كتب لنا برفقة من نحبّ، لن يعاد أو يستعاض.
نبكي إذا فرحنا أو نجحنا ولم نجد من نخبره بأفراحنا ونشاركه بها.
نبكي إذا فشلنا ولم نجد من يكذب علينا بأنّنا أصبنا.
نبكي إذا فقدنا براءة الطفولة واستطيبنا تفّاحة سمّمتها شهوة مغامرات المعرفة.
نبكي إذا جرحت كراماتنا في مواقف الذلّ وانكسار الكبرياء عند تسلّط الأقوياء.
نبكي حين نعي أنّنا الغصن الذي خُلع عن أمّه عند التشذيب لأنّه نما بغير اتجاه أخوته، والقصاص معلوم يشهد عليه الثمر في مآتم الشجر.
نبكي حين نرى وجع أبنائنا أو أخوتنا ومن نحبّ، وأيدينا مكبّلة لا تفقه إلّا رفع الأيدي دعاءً لاستبدال أدوارٍ نعي سلفًا أنّها عجائبيّة غير محقّقة.
نبكي حين نرى الشامتين بنا وقد حضروا يشهدون على مآسينا ويدّعون مؤاساتنا لاكتمال أفراحهم.
والبكاء كشهقة الهجران في الحبّ الأوّل، بداية إشارات الحزن، قبل أن يلبسنا جلد التمساح، ويمتصّ المياه، ولا يبقي إلّا طعم الملوحة لتعقيم جراح تنزف قهرًا ولا تختم إلا في العالم الآخر.
وحين نتوقّف عن البكاء، نعي أنّ الوجع انتهى من مرحلة تخدير المشاعر، وأنّنا دخلنا في مرحلة غيبوبة الإنسانيّة فينا، وصار الحزن وجبة يوميّة ضرورة. والعقل استقال من مهام إيجاد الحلول.
أصعب ما في الأمر أنّ الحزن والفرح ممزوجان في كأس الوعي، فمتى تمنّعنا عن شرب هذا الكأس، تخلّينا عنهما معًا.
لقد زرعوا الوجع في جيناتنا ورفعوا مقامه وبجّلوه، جعلوه بطلًا، ومفتاحًا لباب السموات، والموروث مقدّس، ولنا من القدّيسين التماهي… وعلّمونا أنّا كنّا يومًا في الجنّة ومنها طردنا، وأنّا كنّا سعداء، حيث لا حزن ولا مرض ولا بكاء، بل فرح وجمال وجلال، وصار مصيرنا أن نحيا تعساء، العين منّا إلى الجنّة تريد العود تنشدها، والروح منّا تعرب عن رحلة تغرّبها. أمّا الطين، فملعون ببحر رغباته غارقٌ يشقى، لا هو راضٍ بما له قسم، ولا الروح به ترضى.
لأنّ الحزن هو من يحيا فينا، فنعيش فرحنا قناعًا مزيّفًا ونخفي حزنًا عظيمًا، يحمل إقامة غير مؤقّتة، ونبذل جهدًا مضاعفًا لإخفائه، لأنّه جبهة الممانعة في الضمير المتيّقظ لكل متعة في غفلة العقل وسهوة الحياة.
حين يعي المرء حزنه، يعي أن يد الحياة هي التي صفعته حين كان يقرّب وجهه طمعًا بقبلة منها، ليرسم الدرب الآخر إن لم يعجبه درب القدر.
حين يعي المرء حزنه، يعي أنّه يجلس على فوهة بئر الأحزان مموِّهًا غطاءها بأزاهير الابتسامات البريّة الطالعة بين أشواك القندول.
حين يعي المرء حزنه يعني أنّه ذاق الألمين وعلم أنّ آلام الأجساد وُلدت من العَرض لها من العلم دواء، وآلام الأرواح كامنة فيها كمون الجوهر في الأشياء، ليس لها بعدَ سقمٍ من شفاء، فلا إيمان يحييها، ولا أعاجيب تعافيها.
ناتالي الخوري غريب
..
Recent Comments