ميشال الحايك… وأزمة الإنسان المزيّف

 

                            سنون ستّ مضت، على معاد لطالما انتظره، فعبره،(1-أيلول 2005) وها نحن إلى فكره نرنو، نذكر ، ومعه ندعو، إلى امتلاءٍ بعد تجويف، لإنسانٍ عَبَثَ فيه تقليدٌ وتزييف، كان همًّا سكنه، فحاول جهدًا خلع أقنعة، علّ وجودَ بعضٍ ممّن يستمع يتّعظ.

     المونسنيور”ميشال الحايك” هذا الكاهن الموسوعي الشاعر الباحث الواعظ المتعدّد المشارب الفكرية والثقافيّة هو الحاضر الغائب، ولا نقولها من باب المفارقات البلاغيّة لانّنا لسنا في معرض ألاعيب لغويّة، ولأنّ المنطق أيضًا يرفض المفارقات، إنّما نقولها لأنّ حضوره واقع، نعيشه بذكرى صدى عظاته وأقواله ووقفاته على منبر كنيسة القديس جاورجيوس، كلّما علينا اشتدّت رياح فتنة، وعواصف تفرقة.

.

نذكره اليوم واعظًا وهو من اشتهر بمواهبه الوعظيّة، فكان الناس يتجمّعون من جميع الأقطار لسماع عظاته إن في فرنسا، – وأبرزهم جان بول سارتر- الذي كان يقطن في شارع مجاورٍ للحيّ الذي تقع فيه الكنيسة، أو في لبنان، حيث يؤمّ الكنيسة عديد المؤمنين لسماعه، ومَن لم  يتسنّ له الحضور، بديله الإذاعات تبثُّ جميع مواقفه وحكمه وعظاته.. واللهُ منبعها

أوّلًا واخيرًا، ثمّ الأمور الإنسانيّة والوطنيّة، والهدف هو الوصول إلى إنسانيّة حرّةٍ ترقى إلى الله.

نعود اليوم إلى عظاته نقرأها، وما أحوجنا إلى أمثاله في إلقاء ضوء على جرح ينزف، فلا يكتفي بالنظر على تفنّن قولٍ، بل وصف حاضرٍ له جاهدًا يسعى إلى إيجاد حلول.

نعود اليوم إلى مجموعة محاضرات ألقاها، وجمعت العام 1969 من منشورات المطبعة الكاثوليكيّة بيروت، تحت عنوان” رسالة إلى بني جيلنا” نقرأها وعلى الرغم من مضيّ أربعين عامًا على كتابتها، وكأنّه يعاني الآن زيف الإنسان المعاصر في تقليده بعد تجويفه، يقول:  

كذا في العالم الإنسان مجّوف،أمّا عندنا فهو مزيّف يحرّفه التقليد، والتقليد سهولة تأخذ من سطح الأشياء وألوانها وصيغها فتكتفي باللقب عوض الهويّة، وبالنّسَب عوض الأصل، بالقبيلة عوض الشخص، بالممتلكات بدل الأنيّات، وهذا هو التزوير على الحقّ وعلى القيم إذ توضع في غير مواضعها.

ولكثرة ما يزوّر الإنسان عندنا قد أصبحت نفسه مزوّرة، كالعملة، كالفلس المزوّر. نسبته إلى الحقّ كنسبة الذّهب المزيّف إلى الذّهب الخالص.

الإنسان يزوّر في كلّ شيء. في دينه يقلّد السّلف الصالح وليس له من اختباراتهم الوجوديّة العميقة سوى المظاهر يعرضها والطّقوس يمارسها، وقد فرغت من مضامينها الأوّلية…..

   ويقلّد في تفكيره. فما تطلع في العالم فكرة فلسفيّة أو نزعة فنّية أو نظرة سياسيّة إلّا ويقتبسها ويردّدها من خوارجها كانت في مصادرها عصارة جهدٍ وبحثٍ ومأساة حياة عند منشئيها، فإذا هي عنده اقتباس دون جهدٍ، سرقة حلال دون عناء. والفرق بينها عندنا وبينها عند أصحابها هو الفرق بين النّص والنّسخة، بين الواقع وصورته…….

    يقلّد الإنسان عندنا في تفكيره ودينه. يقلّد في دنياه. لا يظهر زيٌّ جديد في اللباس والفنّ والرقص والغناء إلّا وكان له في دورنا وشوارعنا وحاناتنا من يتلبّسون به ويتراقصون عليه. وهكذا فلا نكتفي بتقليد أسلافنا من الأمس بل بمسخ حاضر الغير في تفكيرنا وحديثنا وسياستنا وفنوننا وعاداتنا. ونحن في كلِّ ذلك أخّاذون سرّاقون، شاهدو زورٍ على حقيقتنا، نتلوّن كالحرباء بألوان كلِّ حقيقةٍ عابرة. وإذا صحّ لنا بعض شيءٍ من حلى الشّمائل والجمالات فهي مأخوذة منحولة لو نزعت عنّا لَبانَ ما في نفوسنا من قبائح وعيوب. …

 متى ترى نقلّد أجمل ما في نفسنا بعد أن قلّدْنا الجميع، فننزل صوب الأعماق نستطلع الإنسان الذي شوّه تحت كدس المآخذ والمساحيق. أم حكمٌ على الإنسان عندنا ان يظلّ عبد التقليد لا وليد التّجديد. فالويل للذين كذبوا عليه وغرّروه حتّى خان نفسه، فراح يشهد عليها شهادة زور. الويل للذين قيّموه بغير ما هو، بممتلكاته لا بماهيّته، بالطائفة أو العشيرة التي ينتمي اليها، بالحزب السياسي الذي ينتمي اليه، بثمن الثوب الذي يلبسه والسيارة التي يقتنيها. والويل لمن عوّدوه الرشوة والإباحيّة وأقنعوه بانّ عبادته لله وإخلاصه لدينه يُقاس بزخم التعصّب والبغض الذي يضمره لأبناء الأديان الأخرى. خيرٌ لهم لو يُعلَّق في اعناقهم رحى الحمار ويُزَجّون في أعماق البحر.”(انظر رسالة الى بني جيلنا،صص87-88-89)

           في كلّ مرّة نعود إلى كتاباته ندرك مدى تطلّعه إلى تصديع بعض البنى الاجتماعيّة التي ليس لها ارتكاز فكري وإعادة بنائها على أسس إيمانيّة ذات أبعاد روحانيّة ودعوته إلى إصلاح الإنسان الفرد من أجل إصلاح المجتمع.

         يبقى أن نقول في الذكرى السادسة لانتقاله، إنّ الاب الحايك كان حاملًا مشعل النور التوجيهي داعيًا الناس الى إثبات وجودهم الإنساني بالخروج من ذاتهم المزيّفة ليقفوا بها أمام مرآة أنفسهم، وهو على يقين حتميّ بأنّ الإنسان، إذا تجرّد عن كلّ زيفه الحضاريّ والأخلاقيّ والإنسانيّ، سيحقّق وجود ذاته الإنساني في مستواها الأعلى.

[1]

 

[1] -جريدة الأنوار، السنة 51، العدد 17835 الاثنين 5 أيلول 2005.

الصداقة… تاريخ صلاحيّة لا ينتهي

الصداقة الحقّ قيمة نهضويّة وفاعليّة خلّاقة وولّادة سعادة حين تكون أقوى من رابط الروح بالروح. صداقة فكر يأبى إلّا ان يتلاقح، عشق عقل يأبى إلّا أن يتغلغل في عمق الخلايا، ليس بعضها، بل كلّها. والأهمّ من ذلك، حين يعي الإنسان كلّ لحظة هذه الصداقةَ، يعي نضجه، يعي لذّة الوقت، يعاني انتظار اللقيا الذي تكافئه الكلمات والمقطوعات العازفة على شوق الفكر للفكر. تتفرّد الصداقة كونها لقاء أرواح يمكن أن قد تكون تاهت في أزمان سابقة والتقت، في كليّ تطابق بين النفس والروح

تتكسّب الصداقة متانتها حين يعي الإنسان أنّها في أوّل سبيلها، تمرّ بمقام الدهشة، فمتى زالت هذه الدهشة، بعد عميق تعارف واكتشاف زوايا وخبايا، إمّا أن تهزل حالها، وتاليًا يتمّ الانتقال بعدها الى مرحلة الروتين العلائقي، فلا تعود تليق بمقام هذا الاسم، تحت قاعدة اكتشاف العيوب لتكون إجابة أحد الشعراء:”أتطلبُ صاحبًا لا عيب فيه/ وأيُّ الناس ليس له عيوبُ”.وإمّا يتمّ الفناء في متانة بقاء الصداقة الأبدي..

لا تشبه الصداقة شيئًا آخر، لا تشبه أمرًا آخر. لأنّها تلك الطاقة المستمدّة من محبّة الآخر وإحساسك أنّ ثمّة من يقدّم لك الدعم والسند، وأنّ عينًا عليك ترعاك أبدًا، وتلك العلاقة التبادليّة والتفاعليّة في عجن الخير المطلق، وبخاصّة حين تبنى على جوهر متأصّل في نفس الصديقين تصبح أقرب ما تكون إلى روح واحدة، وثباتها حريّة قرار الآخر بين البقاء والفرار أنّى يشاء رحيلًا وهروبًا وضجرًا أو بقاء أو عودة بعد غياب، مع كلّ ما تحتّمه من تجرّد كلّي، واندفاع كلّي، ومحبّة تنمو بذاتها من دون أن تنتظر مقابلًا.

قد يعيش المرء عمرًا كاملًا، فلا يلتقي الصديق الحق، وبذلك كمن فوّت بذلك فرصة التجدّد الحياتي مع كلّ إشراقة شمس، فيكون بذلك إنسانًا فقيرًا. وعلى الرغم من أنّ الإنسان يردّد دائما لنفسه أنّه لا يريد أن يتعلّق بأحد، كي لا تكون الخسارة موجعة وقويّة بقوةّ التعلّق، فيكون اللجوء إلى الزهد بالصداقة. وهنا نستحضر ما جاء في كتاب “الحيلة لدفع الأحزان” للفيسلوف الكندي، وفيه ألّا يتّخذ الإنسان من أيّ موضوع أرضي محبوبًا لأنّ كلّ ما على الأرض فانٍ، أكان شيئًا أو إنسانًا، وتاليًا هو عرضة للزوال، ما يجعل الإنسان معرّضًا كلّ آن لخسارة ما يحبّ، من هذا الباب يصبح الزهد بالصداقة زهدًا بالحياة وليس تقليلًا من قدسيّة الصداقة أو تقليلًا من قيمة الآخر في حياته.

فالصداقة تمتّع بالحياة وتنعّم، وهي هبة من هباتها لأنّها ترادف السعادة، وهي أقصى حالات الصدق والحنان. هذا لا يعني ان تكون جميع الصداقات عميقة بالمرتبة عينها، فلكلّ إنسان حاجات وتطلّعات وأسلوب حياة وذائقة عيش فكرا وحياة وماضيًا ومشاعر وأحاسيس، وقد قال في ذلك أحد الشعراء:” ولا يألف الإنسان إلّا نظيره/ وكلّ امرىء يصبو إلى من يشاكله”. وقد تتنوّع الصداقات أو فلنقل تصنّف، على أن يكون تاريخ صلاحيّتها لا ينتهي بانتهاء حاجة المرحلة اليها.

فهناك الصديق الرفيق الذي تستمع اليه وتسانده وتدعمه وتصغي الى همومه ومشاكله وتسعى الى إرشاده وحلّ اموره.

وصديق بعيد-قريب: تتخاطب قلوبكما وعقولكما من دون تعبير عن هذا الشعور النبيل، مع تقدير صريح لمنزلة كلّ منهما في نفس الآخر، على قاعدة أفلاطون”صديقي هو شخصي الثاني”.

وصديق صديق يستحوذ على كلّ كيانك، بعد انتهاء مرحلة الدهشة، صديق يوجعك في العمق وجعه، يفرحك في الصميم فرحه، تصحو لتحاوره وتنام على أمل يقظة الشمس لتطمئن عن حاله، لتعيش معه المجد الذي قال به فولتير.

وبعد، هناك الصديق-المزيّف، الذي يعتقد أنّه يقدّم لك اسمه طبقًا شهيًّا لتكبر به، لأنّه يعتبر نفسه جوهرة نادرة تتسارع الناس اليه او تحلم بقضاء بعض الوقت معه، وانك إذا صادقته، أنت الرابح الاكبر، لحظوتك المكوث في مجالسه، أو أنّك محظوظ كونه قبل الحضور في مجلسك. ودوام وجودك إلى جانبه رهن بمدى قدرتك على أن تكون عددًا ليدين تصفّقان له إعجابًا وانك حين تخدمه تكون خدمة لنفسك، لأنّ برأيه أمثالك يجب ان يتجنّدوا لخدمته وفاء وشكرانًا للحياة على وجوده

.

وأخيرًا، ثمّة نوع جديد آخر، هو الصديق الفيسبوكي، ولنا في ذلك حديث آخر عن هذا العالم الذى بات المنتدى الاجتماعي الأكبر.

وإن كان لا بدّ من كلمة ختام، فمسكها يكون ما قاله بولس سلامة:”علّمتني الحياة أنّ الصداقةَ المحض هي قدسُ أقداس المجتمع، لأنّها بنت المحبّة، والمحبّة غرسة الله في صدور الأوادم”

أثمنُ هبات السماء، صداقاتٌ تسمو بالزمن، وتعطي الحياةَ معناها، وتحلّيها…صداقاتٌ لا تعرف الازدواجيّةَ، تفقه لغةَ الكِيان بلا كلام، حيث انكشاف كلّي أمام مرآة الذات، التفتيشُ عن الألوهة الكامنة هو القبلة، والصراحةُ الكليّة هي نعمةُ الحريّة… والشمسُ تشرق على الأسرار، وظلال العتب تستحي وتختفي، وفيء الأمان بطلٌ في دفء المحبّة التي لا تعرف زوائل وموانع

نشر في الأنوار تموز 2014

ناتالي الخوري غريب

الجنون…أجنحة الفرح

الفرح كيان، له اسم يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، لا يسبح إلّا في الأنهار الجارفة، ولا مصبّ.

للفرح أجنحة تحلّق وتصفّق وترقص في “منازل الرياح” فننسى أنّا كنّا يوما نمشي على الأرض…ومن يأبه. للفرح عيون تري دقائق الأمور، وتعرف كيف تغضّ الطرف عمّا يجب ألّا يُرى. لأنّه يتقنّع بألف قناع وقناع، ويتقن فنّ الاحتجاب والظهور، ليبقي لنفسه قيمة البحث الدائم عنه في ألاعيب الحضور. بسيط هو، لا يحبّ التساؤلات والإجابات المتعدّدة والتأويلات، يكتفي باللمحات والإشارات والدوران في فلك من عنه يسأل

.يتجلّى الفرح في ثلاث:

       في شتّى أنواع العطاء، والعطاء ممّا يفيض لا يعني شيئًا، العطاء ممّا نحن بحاجته

       هو السعادة الأقصى، كفلس الأرملة.

وفي الكرامة، لأنّها هي الأصل والكلمة الفصل، وما تبقّى تفاصيل.

وفي الأمان، لأنّه يُطرد الخوف على المصير، ليتسنّى لملائكة الفرح الاستئثار بالإقامة.

والفرح ينتج في مصنعين:

العقل أوّلا…لأنّ السعادة عادة، تسبقها إرادة. ولأنّنا أبناء الفرح. نحن حقًّا من نقرّر أن نكون سعداء، بتفعيل عمل ذكرياتنا الجميلة التي مضت، بتخزين مزيد من الأحداث المحبّبة في حاضرنا، بصنع غد نتوق إليه. قد يكون الفرح أمامنا ولا نراه، أو كامنًا في الاحتكام إلى الجنون في إطلاقه. لأنّ الجنون هو نشوة الحريّة التي لا يقيّدها عقل وعادة ومتوقّع. وكلّ حريّة لا تناقض العقل، بل تبنى عليه…

فيصبح الجنون ألعوبة العقل في أُلهوّة الحياة. تجليّاته متعة المغامرة في لجّة الخطر، وتأريخ البطولة في سجلّ القدر.

والجنون ليس تهمة، هو اكتمال النضج في فهم العبث، وفتح الأبواب أمام الفرح. لأنّ لذّته كامنة في تعب الآخر من العتب، والاستسلام إلى مشئية الفرح

.

في الجنون، يتمّ قبول الموت صعقًا وحرقًا لرماد يسخر من طبيعة الحياة حيث الروح يتفلّت من قفص الخلايا التي سجن فيها دهرًا.

لا يعني الجنون أنّ العقل في إجازة أو خدّر بمواد الخيبة، بل هو وعي انتقاله من إدمان إلى آخر، واتّخاذه قرار الفصل في المواقف.

الجنون هو القديس الذي يمتلك القدرة على اجتراح الأعاجيب، لا يراها إلّا طالبها الذي يشعر باختفاء جميع أعراض أمراضه. وهو شفيع المنتظرين لأنّه يشفي الإنسان من مرارة الصبر، ويريحه من شقاء، الانتظار.

الجنون هو الطيران حين يمشي الجميع، والمشي حين ينامون…هو الأمل بما يرفضه المنطق لأنه منطق من لا أمل لهم.

وبعد أن تستيقظ من جنونك، تعرف كّم الحماقات التي ارتكبتها وتحتاج الى جنون آخر ينسيك إياها، فما يكسر لا يرمّم.

ويسلبك الفرح ثلاث: غرور وحقد وحسد.

في الغرور لعنة الكبرياء التي تتآمر عليك ساعة تشاء، الزمن لك يرصد، والذكرى صدى لا يرحم.

وهذا يجعلك حاسدًا ينخرك سوس المقارنات ووباء أفعل التفضيل. ليملأ الحقد قلبك، فيتضخّم محتّلًا كلّ المساحات الأُخر، حينذاك لن يتّسع لحبّ أو سعادة ما حييت، حيث لا ينفعك عطاء أو جنون، وتصبح خسارة الفرح حتميّة وتاليًا معنى الحياة وغايتها.