علّمونا أن نخاف

عَلَّمونا أن نخاف..

IMG-20160123-WA0026تجليّات  الخوف عديدة وأعراضه مختلفة وأسبابه ومسبّباته كثيرة. علّة بين العلل عالي المقام، ومسمّم السهام والسنان. له ألف قناع وقناع ويتلوّن بتلوّن الظروف والأيام.. كاره الضوء، طارد الحلم، وخليل وسادة الأوهام.

 الخوف، سارق المتعة من حياة صاحبها وسالب النعمة في عتمة ناظرها. وحين يتمكّن من الإنسان، يصبح هو الكائن الحيّ، ويصبح الإنسان له ظلًّا.

والخوف صديق المرض وعشيق الوهم ورفيق الوهن. هو عدوّ الفرح والمرح والاستقرار.

الخوف والزمن حليفان: الأوّل يمدّد وقت الثاني مطيلًا بعمره اللامتناهي لوعةً في انتظار الآتي، والثاني يضخّم حجم الأوّل، على حساب قوّة السكينة الكامنة في الطمأنينة، لأنّه يكبر بتآكلها، ليجعل الإنسان راضخًا مستسلمًا ضعيفًا، معلنًا موت أعصاب الأحلام والآمال، فيكون في المرصاد الخلل والفشل والملل . 

لقد علّمونا أن نخاف من الحقيقة وقولها لأنّها قد تؤدي إلى العمى، فأوقعونا في كهوف الخيبة والرؤية في ضبابيّة الظلال، ولم يعلّمونا أن الكذب على الذات هو العمى الحقيقي.

علّمونا أن نخاف حين نفرح كثيرًا، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى كمّ من الأحزان المريرة. ولم يعلّمونا أنّ الحزن طاقة سالبة مملوءة بالتشاؤم وتهزم بالتفاؤل.

علّمونا أن نخاف من الضحك، وإلّا ستحسب منّا رخصة الرصانة والثقافة التي تتطلّب الكآبة والوجوم. ولم يعلمونا أنّ الرصانة هي عفويّة التعبير في ثقافة الفطرة.

علّمونا أن نخاف من المطامح لأنّها مطامع، ولم يعلّمونا أنّ كيف نميّز بينهما.

علّمونا أن نخاف من التجارب والإقدام لأنّ الفشل سيكون لنا بالمرصاد لتقرع بعدها أجراس الشامتين المنتظرين سهواتنا، ولم يعلّمونا أن النجاحات لا تولد إلا من رحم السقطات.

علّمونا أن نخاف من العتمة حين يحلّ الليل، من الآخر، من الشرّ، ولم يعلّمونا أن نخاف من عتمة قلوبنا والشرّ في دواخلنا.

علّمونا أن نخاف من الموت، ولم يعلّمونا أنّه عبور إلى الحياة.

علّمونا أن نخاف من الله، وأن نعبده خوفًا منه على مصالحنا ومصائرنا ولم يعلّمونا أن نعبده حبًّا به وأنّ الحبّ غاية وجودنا ووجود الكون.

علّمونا أن نخاف من الحبّ لأنّه كاسر للقلوب خؤون، ومفقد للعقول لعوب، ولم يعلّمونا أنّه أجمل عطايا الله به تتمّ أعجوبة الحياة وأغرودة الفرح.

لا يُقضى على الخوف بالاختباء عنه ولا بالهروب منه، لأنّه يغتذي من الاثنين. أمّا البوح به فيزيد من ثقل مروره ورعونة غروره.

إلّم يحمل الإنسان الخوف في قلبه، لن يحمله في عقله وكيانه، لن يجرؤ أن يطارده، لأنّه لم يجنّسه في بلاد أحلامه، ولم يرحّب به لاجئًا أونازحًا أو حتى ضيفًا عابرًا….

أمّا إذا سمح له بالعبور، فسيحمله هو لاحقا، ساخرًا منه ليجعله له عنوانًا ومسكنًا..آتيًا معه بكلّ الوساوس والمخاوف والمآزم، ليوهمه بأنّه حليف السلامة ومدبّر الهروب الى الأمام.

ما الحلّ والخوف مقلق الوجود ؟

قد يكون الحلّ وعي قيمة اللحيظات وتصنيع وقت الأمل بخواتيم سعيدة بالطريقة التي يراها المرء مناسبة له، أكانت إيمانًا أو شجاعة أو تسليمًا بما لا يد له فيه.

ويتطلّب طرد الخوف خوض المغامرة التي تفرضها الظروف بكامل الثقة بالذات أوّلًا وتاليًا بالآخر…

فلكلّ مرحلة رجالاتها…لهذا تكبر الشجاعة في العقل الذي يتحكّم بالأفعال وردّات الأفعال المبنيّة على إدراك يعرف ماهيّة النتائج.

ليست المغامرة القفز في المجهول والتنصّل من المسؤوليات المترتبة وتعليقها على علّاقة الظرف والحظ، بل هي تجاوز الخوف في عيون من تشدّ المرء إليهم مشاعر الأخوّة والإنسانيّة ومحاولة تبديله بيقين التخطّي في شريعة المنطق تحقيقًا لخلاص جمعيّ لا يؤمن بالخلاص الفردي.

لأنّ الخوف وباء معدٍ، ينتقل بمرور النظرة ويستغلّ ضعف اللمحة.

فتنقلب المغامرة هنا إلى اتخاذ أفضل الممكنات من القرارات في لحظة المباغتة حيث التوقّع يتحوّل واقعًا والشجاعة حينها تكون بتقبّل النتائج والعيش بموجب ما يمكن أن ينطلق منها.

والتسلّح بالشجاعة يكون بالصمود في وجه من يخيف أكان ظرفا أوشخصا أوثرثرة أو موقفًا. بقمع صور انكساراتنا غير المدعوّة الى مائدة الحاضر، وعدم استحضار ماضي هزائمنا القديمة من قبورها.

لا يُهزم الخوف بالصراخ ولا بالصمت الواشي المتقنّع بالحكمة الزائفة، بل يهزم بالمعرفة. ففي المعرفة يكمن المنطق، وللمنطق كامل الغلبة على الوهم، وحين يهزم الوهم، ينسحب الخوف الذي لا يعود ثمّة حجّة لبقائه ولا حاجة، فيخجل ويغيب، وربّما ليتقنّع بوجه آخر…أو ليقبض على ضعيف آخر.

فلا يمكن أن يُهزم الخوف إلّا بأقانيم ثلاثة: حبّ وإيمان ومعرفة.

 

IMG-20160123-WA0026

علّمونا أن نخاف


تجليّات  الخوف عديدة وأعراضه مختلفة وأسبابه ومسبّباته كثيرة. علّة بين العلل عالي المقام، ومسمّم السهام والسنان. له ألف قناع وقناع ويتلوّن بتلوّن الظروف والأيام.. كاره الضوء، طارد الحلم، وخليل وسادة الأوهام

 الخوف، سارق المتعة من حياة صاحبها وسالب النعمة في عتمة ناظرها. وحين يتمكّن من الإنسان، يصبح هو الكائن الحيّ، ويصبح الإنسان له ظلًّا.

والخوف صديق المرض وعشيق الوهم ورفيق الوهن. هو عدوّ الفرح والمرح والاستقرار.

الخوف والزمن حليفان: الأوّل يمدّد وقت الثاني مطيلًا بعمره اللامتناهي لوعةً في انتظار الآتي، والثاني يضخّم حجم الأوّل،IMG-20160123-WA0026 على حساب قوّة السكينة الكامنة في الطمأنينة، لأنّه يكبر بتآكلها، ليجعل الإنسان راضخًا مستسلمًا ضعيفًا، معلنًا موت أعصاب الأحلام والآمال، فيكون في المرصاد الخلل والفشل والملل . 

لقد علّمونا أن نخاف من الحقيقة وقولها لأنّها قد تؤدي إلى العمى، فأوقعونا في كهوف الخيبة والرؤية في ضبابيّة الظلال، ولم يعلّمونا أن الكذب على الذات هو العمى الحقيقي.

علّمونا أن نخاف حين نفرح كثيرًا، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى كمّ من الأحزان المريرة. ولم يعلّمونا أنّ الحزن طاقة سالبة مملوءة بالتشاؤم وتهزم بالتفاؤل.

علّمونا أن نخاف من الضحك، وإلّا ستحسب منّا رخصة الرصانة والثقافة التي تتطلّب الكآبة والوجوم. ولم يعلمونا أنّ الرصانة هي عفويّة التعبير في ثقافة الفطرة.

علّمونا أن نخاف من المطامح لأنّها مطامع، ولم يعلّمونا أنّ كيف نميّز بينهما.

علّمونا أن نخاف من التجارب والإقدام لأنّ الفشل سيكون لنا بالمرصاد لتقرع بعدها أجراس الشامتين المنتظرين سهواتنا، ولم يعلّمونا أن النجاحات لا تولد إلا من رحم السقطات.

علّمونا أن نخاف من العتمة حين يحلّ الليل، من الآخر، من الشرّ، ولم يعلّمونا أن نخاف من عتمة قلوبنا والشرّ في دواخلنا.

علّمونا أن نخاف من الموت، ولم يعلّمونا أنّه عبور إلى الحياة.

علّمونا أن نخاف من الله، وأن نعبده خوفًا منه على مصالحنا ومصائرنا ولم يعلّمونا أن نعبده حبًّا به وأنّ الحبّ غاية وجودنا ووجود الكون.

علّمونا أن نخاف من الحبّ لأنّه كاسر للقلوب خؤون، ومفقد للعقول لعوب، ولم يعلّمونا أنّه أجمل عطايا الله به تتمّ أعجوبة الحياة وأغرودة الفرح.

لا يُقضى على الخوف بالاختباء عنه ولا بالهروب منه، لأنّه يغتذي من الاثنين. أمّا البوح به فيزيد من ثقل مروره ورعونة غروره.

إلّم يحمل الإنسان الخوف في قلبه، لن يحمله في عقله وكيانه، لن يجرؤ أن يطارده، لأنّه لم يجنّسه في بلاد أحلامه، ولم يرحّب به لاجئًا أونازحًا أو حتى ضيفًا عابرًا….

أمّا إذا سمح له بالعبور، فسيحمله هو لاحقا، ساخرًا منه ليجعله له عنوانًا ومسكنًا..آتيًا معه بكلّ الوساوس والمخاوف والمآزم، ليوهمه بأنّه حليف السلامة ومدبّر الهروب الى الأمام.

ما الحلّ والخوف مقلق الوجود ؟

قد يكون الحلّ وعي قيمة اللحيظات وتصنيع وقت الأمل بخواتيم سعيدة بالطريقة التي يراها المرء مناسبة له، أكانت إيمانًا أو شجاعة أو تسليمًا بما لا يد له فيه.

ويتطلّب طرد الخوف خوض المغامرة التي تفرضها الظروف بكامل الثقة بالذات أوّلًا وتاليًا بالآخر…

فلكلّ مرحلة رجالاتها…لهذا تكبر الشجاعة في العقل الذي يتحكّم بالأفعال وردّات الأفعال المبنيّة على إدراك يعرف ماهيّة النتائج.

ليست المغامرة القفز في المجهول والتنصّل من المسؤوليات المترتبة وتعليقها على علّاقة الظرف والحظ، بل هي تجاوز الخوف في عيون من تشدّ المرء إليهم مشاعر الأخوّة والإنسانيّة ومحاولة تبديله بيقين التخطّي في شريعة المنطق تحقيقًا لخلاص جمعيّ لا يؤمن بالخلاص الفردي.

لأنّ الخوف وباء معدٍ، ينتقل بمرور النظرة ويستغلّ ضعف اللمحة.

فتنقلب المغامرة هنا إلى اتخاذ أفضل الممكنات من القرارات في لحظة المباغتة حيث التوقّع يتحوّل واقعًا والشجاعة حينها تكون بتقبّل النتائج والعيش بموجب ما يمكن أن ينطلق منها.

والتسلّح بالشجاعة يكون بالصمود في وجه من يخيف أكان ظرفا أوشخصا أوثرثرة أو موقفًا. بقمع صور انكساراتنا غير المدعوّة الى مائدة الحاضر، وعدم استحضار ماضي هزائمنا القديمة من قبورها.

لا يُهزم الخوف بالصراخ ولا بالصمت الواشي المتقنّع بالحكمة الزائفة، بل يهزم بالمعرفة. ففي المعرفة يكمن المنطق، وللمنطق كامل الغلبة على الوهم، وحين يهزم الوهم، ينسحب الخوف الذي لا يعود ثمّة حجّة لبقائه ولا حاجة، فيخجل ويغيب، وربّما ليتقنّع بوجه آخر…أو ليقبض على ضعيف آخر.

فلا يمكن أن يُهزم الخوف إلّا بأقانيم ثلاثة: حبّ وإيمان ومعرفة.

نشر المقال في جريدة الأنوار في شهر آب 2014..

 

لماذا هجرة الآلهة والمدائن المجنونة؟

حين صرخ مكسيم غورغي “أين الله” في روايته، لم ينكر الله بقدر ما أراد البحثَ عنه،  كذلك شغلته مسألة ليو تولستوي حين قال”أمنيتي هي الله”..

أنطلق من هاتين الصرختين  لأقول إنّ هاجسَ أبطال روايتي بعد أكثر من قرن هي عينها، في أرضية أخرى، مشرقية معذبة، قمعيّة ودمويّة ومهجّرة، لأسأل:

ما الجدوى من البحث عن الله ونحن نعلم انه موجود يتدخّل ساعة يشاء؟

ما الجدوى في زمن المآسي، أن نكتبَ رواية عن المآسي  ونصوّرها؟

للأرشفة؟ طبعا لا، فالإعلام يؤرشف، والذاكرة لا تنسى ما شوّهته يد الحرب. للتعاطف؟ وما ينفع التعاطف من بعد؟ والمسرح كبير، وما يجري قصةّ حقيقيّة لموت الإنسانيّة على مرأى العالم الصامت…

ما الجدوى من صدى صوت الأنين ونحن نعلم أنّ الأنين لم يردّ يومًا وطنا، أو قتيلًا؟ بل يزيد محنة الروح والجسد؟

ربّما لا جدوى، فتكون الرواية هنا ضربًا من العبث، ومشهدًا رديفًا لما يحدث، وربّما، وفي ال ربما تكمن احتماليةُ تحقيق الأمل، في محاولة تسخير هذا العبث من أجل فهم أفضل لذواتنا عند إعادة خلق هذا العالم المتخبّط بوحوله من جديد.

فرادةُ العمل الروائي، انّه يتسّع لتعدديّة الأصوات بوضوح بعيدا من الترميز والتكثيف، إيمانًا بضرورة الإصغاء، حرفةَ عيشٍ. بالرواية نحن ننتصر على أُحاديّة التعبير، نحن ننتصر على الزمن بطريقة ما، ننتصر على المأساة، حين  نشارك في خلق فرح النهايات، وإعلاء مقام الأخلاق بدلًا من التلهيّ في الدفاع عن الديانات،  ولو أتى ذلك على حافةٍ بين الواقعي والمتخيّل…إظهارًا لنسبيّة الحقائق.

هجرة الآلهة والمدائن المجنونة، صرخة الكرامة التي تنتفض من فظاعة الذلّ والهوان، تسجيلًا لموقف أمام حركة التاريخ، صرخة  فيها الكثير من العتب والغضب والحزن أمام الجنون الأسود، واستكانه إلى الإيمان بالله-المحبّة، المحبّة فقط، أملًا وحيدًا لاستحقاق الحياة… وشكرا لجميع المنتدين والحاضرين، ومن اسهم في تدقيق الرواية، د. ربيعة ود.نازك والاب د. سميح.

كلمتي في ندوة هجرة الآلهة والمدائن المجنونة في البيال 29/ 11/2015

IMG-20151129-WA0070

المنتدون: د. طوني الحاج، د.مهى الخوري، المؤلفة ناتالي الخوري، د.محمد علي مقلد، د.حبيب فياض:

More

محنة المثقّف العربي بين التقليد والتجديد

Screenshot_2015-10-17-21-05-51الصراعيّة الأبديّة الثقافيّة في أدبيّات الكتابة، ليست كامنة بين التقليد والتجديد، كمسرح حامل شتّى القضايا والمحمولات والتجليّات والموضوعات، بل في العقليّة الانهزاميّة والانتصاريّة القائمة على عقدة الأنا المرضيّة للذات المبدعة الكامنة في “أفعل التفضيل”، بين بعض التقليديين والحداثويين

فالتوليفة الناتجة من طريحة (بعض)التقليديين المتوهّمين بأحاديّة الأحقيّة في الحقيقة، ونقيضة (بعض)المجدّدين المتمسّكين بأحقيّة النقد والهدم لإعادة البناء،  تُظهر(هذه التوليفة)  جدليّة مبنيّة على ذهنيّة تنازعيّة قائمة بين ذاكرة (بعض)متأخّرين أرادوا أن يمحوا ماضي بداياتهم، ويكرّسوا مجد حاضرهم، وينسفوا كلّ جديد مستجّد قد يتفوّق عليهم، وبين(بعض) مجدّدين يريدون خرق شرنقة الحياء والاستصغار التي يمكن أن يُدفنوا فيها إلّم يجاهروا بأسبقيّة التماع  أفكارهم واستواء رؤياهم وتطلّعاتهم.

وأكثر، فالتقليديّون،  يريدون ذاكرة حداثويّة لا تعترف إلّا بهم، ولا تستظهر إلا إبداعهم. ومن لا يتوّجهم ملوكَ الفكر الثقافة،  يطرحونه خارج حاشية التفكّر والإبداع. ومن لا يرنّم لهم أغرودة الوفاء، يردّدون أنّه انتفاضة طمع وغباء. من لا يعترف بأعجوبة نتاجهم،  يجرّدونه من جنديّة خدمته في الفهم والإفهام.

أمّا أزمة المجدّدين في ضيق تضجرّهم للوصول السريع إلى تكريس الإبداعية الخاصّة بهم، فتراهم ينظرون إلى التقليديين صعاليك يكتبون معلّقات من جاهليّة نفوسهم وقلّة حيلتهم على مجاراة حداثة لم تدخل تاريخَ عظيمِ حضاراتهم. فمن لم يعترف بهم يرمونه بحجارة الغيرة على فنّ الأصول، الذي لا يعرفون منه إلّا جلبابه. ومن يقدّم إليهم النصح والاعتصام بالصبر يردّون بضرورة جدوى انتصاحهم بأخذ قيلولة حتميّة لا استفاقة منها.

لقد نسوا جميعًا أنّ السماء كبيرة تتسّع لجميع المجرّات والنجوم، ولكلّ منها له التماعها المتفرّد، ومحور وجودها في المنظومة الكونيّة كما المنظومة الفكريّة.

لقد نسوا جميعًا أنّ ما يجمع معظمهم أكانوا مقلّدين أم مجّددين، أنّهم يتزّلفون ل”زعيم” إليه ينتمون ويقدّمون ولاءهم، ويتمنطقون بمايتلاءم وتطلّعاته، على شريطة أن يعطيهم شرف الانضواء في حاشيته، فتنقلب المعادلة، ليخطّوا اتجاهًا فكريًا قائمًا على التبعيّة بما يخدم سياسة فرديّة، بدلًا من أن يجعلوا همّهم إيجاد منظومة فكريّة تحمل لواء الخلاص الجمعي، لتحمل لواءها جميع السياسات. 

لقد نسوا جميعًا، أو ربمّا تناسوا، كبارًا وصغارًا، قدماء ومحدثين، أنّهم يتركون قناعاتهم وانفتاحهم وتمدّنهم وتحضّرهم حين تستدعيهم غيرة الطائفة والدين، فيسخّرون أقلامهم ويستحضرون مخزوناتهم التراثية واقتباساتهم للعن الآخر وشتمه، بوجدانيّة تنفصل عن كلّ موضوعيّة، التزامًا باصطفافات تستدعيها أسياد الطائفة بعيدا من المحاجّات المنطقيّة والبيّنات المقبولة على كّل من أنكر ذلك.

لقد نسوا أو تناسوا، أنّ الإعلام حين يسلّط ضوءه على أحدهم، لا يحجب عن الآخر نور الشمس، ولا بمقدوره أن يكبّر حجم من لا حجم له في ضخامة تواضعه، من دون إنكار أهميّة دوره الفاعل.

حبّذا لو أنّ المثقّف العربي يجتاز محنة العقدة النيتشويّة في التفوّق، المتفشيّة لدينا على قاعدة التقليل من المعادلة القيميّة لنتاج الآخر، فتراهم لا يهتّمون بالإنتاجيّة التي تحمل غائيّة إنسانيّة، بقدر ما يهتمّون باتّهام هذا الآخر، وإضاعة الوقت في البحث في سرقاته ومسروقاته، إظهارًا لتفرّد إبداعهم المبني على الأصالة والإبداع، وضعف نتاج الآخر المسلوب من تجاعيد الآخرين.

حبّذا لو أنّ مسرح الثقافة العربيّة يتوقّف عن أن يكون ساح عداء وتزلّف ونفاق، وتراشق أسهم في حلبة المقارنات والمزايدات، لربّما تتوقّف النزاعيّة على استحصال المرتبة الأعلى ولو كانت ولادتها من رحم  التصداميّة غير الشرعيّة، وضريبة الجائزة  إعلاء شأن النرجسيّة استكمالًا لتقويض دعائم الإبداعيّة وليس العكس، ارساء  لمفاهيم البطولة الفارغة والواهمة….

حبّذا لو يعرف جميعهم، أنّ “الضجّاج” بمآثره وبما جادت قريحته، من كلا الطرفين،  هو حقّ مبرّر له، لأنّ الجميع ضحيّة مخزونات ثقاقية وموروثات أدبية قائمة على تمجيد صورة-البطل، أوهميّة كانت أم أسطوريّة، لكن اللوم يقع على الأصحّاء المعتدلين الذي يدركون تقنية فصل “الذات” عن الموضوع” وضرورة إعلاء صرختهم في مواجهة هذا المدّ المرضي في النقد غير البنّاء ونقد النقد المضّاد الهدّام(ونعطي مثالًا على ذلك، ما كتبه محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي وردود جورج طرابيشي على كتبه في نقد النقد)

.IMG-20151011-WA0007

 اللوم الأكبر على من يقبل أن ينصّب نفسه حكمًا عادلًا معتدلًا يحكم بالأسبقيّة والألمعيّة وهو يعلم بما شابه من عوارض الإصابة بالمرض المميت المخزي للمثقّف العربي لأنّه يحمل تلك المرآة التي تجعلك ترى في انعكاساتها ما هو يريد، جاهلًا أنّ زمن الاستغباء قد ولّى، واستغلال فكرة العراقة في “العتاقة” قد مضى، وأنّ الأصالة أو الحداثة تلازميّة زمن وحالة، وحتميّة تلاقح وإثمار، في سيرورة المسيرة الثقافيّة وديمومتها.

 يبقى أن نقول، أنّ المثقّف العربي بحاجّة ماسّة إلى ضرورة الوقوف أمام نفسه، والاعتراف بمسؤوليّته تجاه ذاكرة أجياله، من دون أن يتعارض الأمر مع أصالة تراثه، والاستشعار بحتميّة تنقية ذاكرته من الكثير من الموروثات المرضيّة، في مسألة التقاتل بين التقليديين والحداثويين، وتقبّل إعطاء كلّ حديث فرصته ونجاحه، وعدم كسر حناجيه عند محاولات إقلاعه الأولى.

فلا يُخرج المثقف العربي من محنته إلّا انفتاحه واتّساع دائرة رؤيته وتدريبه على ذائقة انتقائية لا تنفي الموضوعيّة ولا الاستنسابيّة، تكون مبنيّة على تقنيّة التمييز بين المستحسن والمستقبح، بما يتضمّن من قيم الحقّ والخير والجمال والبناء والإعلاء

ناتالي الخوري غريب

 

الحياة… رحلة في الضباب

الحياة…رحلة في الضباب
 يعيش الإنسان حياته كالمسافر أبدًا في الضباب. المحطات بين رحلة وأخرى لا بدّ منها لحجز تذاكر السفر وشرائها، هي الوقفات أمام الذات الواعية حينًا والحالمة أحيانًا أُخَر، حيث يتسرّب نور الشمس بين الفصول في تتابعها، وقرار الإكمال لا خيار فيه، إلّا درجة السفر بين اقتصادية ودرجة أولى.
 ومسكين من يعتقد أنّه يختار رقم الرحلة وليست هي التي تختاره.
 ومسكين أيضًا من يكون قد أنهى زوّادته في المحطّة الأولى… لأنّه سيكمل مديونًا أو شحّاذًا ما تبقّى له من رحلات على رصيف الذلّ، أو جائعًا حتى الموت.
هي الحياة سفر في الضباب. وأيّ الأسفار  تخلو من الأروعين ممّا لا يمكن الغفلة عنه: المتعة والمغامرة؟
وأي الأروعين لا يخلو من خطرين؟ الندم والسقوط، حيث لا ينفع الرجوع، فالمحن ولّادة المحن.
والجنون أن تعي مخاطر الرحلة قبل دخولها ومع ذلك تغامر.
 أن تعي أنّ الضباب ليس معطفًا خاطته لك السماء ليقيك من عيون من ينتظرك على مفارق كشح الحالة الضبابيّة والكشف عمّا ارتكبته عند احتجاب الرؤية، ومع ذلك تغامر وتسافر.
وقبل أن تغامر، أنت في كامل وعيك، الذي يخبرك بأنّ الحماقات الكبيرة
لا ترتكب إلّا  في الضباب، لأنّك يا مسكين ستعتقد بأنّك تعيش في السماء، فلن ترى الحفر الصغيرة منها والكبيرة،  فالضباب يعميك عن تحديد الطريق التي تتوه فيها وعنها… فهو تكثيف ذريرات التمنّي، ورفعك الى السماء، واختلاف حرارة شغف الداخل عن نبض الخارج، ولن تشعر بذلك إلّا أوان الخروج…
في مشوار الضباب، أنت لا تعي المسافات التي اجتزتها، ولا تعني لك في الأصل، ولا تعود مقاييس تحدّد لها طولًا و عرضًا أو قربًا وبعدًا… ولا تسمع إلا صوت من ترتضيه مؤنسًا ودافعًا لك في المضيّ. أمّا صوت ارتطامك وارتجاجك فستسمعه حكمًا حين تعرّق الدم البارد من ندوبك عند تغلغل الوجع… لتدرك متأخّرًا ما كان من هذه الرحلة، ناسيًا كلّ روعتها، أو ما اعتقدته كذلك.
روعة الرحلة اعتقادك أنّك ذرّة من هواء، بكلّ لطيف شبيهٌ ماهيّةً وكينونةً، وإدراكك بخلل في قانون الجاذبيّة، تحلّق حيث شئت من الأمكنة التي تمنّيت الوصول اليها دهرًا من دون أن تستطيع إلى ذلك سبيلًا…
 روعتها اعتقادك بقدرتك على التغلغل في أنفاس من تحبّ، والتنقّل بين الأشجار وانتقاء ما شئت من ثمار، والتحليق مع سرب الأطيار، والغناء والبكاء والرجاء.
Screenshot_2015-01-19-09-44-40
ماليزيا 2014
وروعة الرحلة في الضباب، حين تعيش رومنسية الليل بوعودها الودريّة، أينما ترمي رأسك وسائد من ريش الأحلام، ومخادع الحقائق غير النائمة… هناك، يكون التعرّي كاملًا، لأنّ المرآة مخبّأة، لا تفضح عيوب الذات، فالغمام أخ الغمام، والولادات من ماء سماء تقطّر…
النجوم لك حليفةٌ في احتجابها وظهورها، والكواكب متاحةٌ لك طريقها، ومباحةٌ لك أراضيها، ما عليك إلّا أن تطلق عليها اسمًا، إن استطيبت سكناها.
ويصبح التيه عنوانًا وراية، والاتجاهات في مؤامرة مع القِبلة التي في داخلك، البوصلة تحيا كامل حريّتها، يمينا ويسارًا وصعودًا وهبوطًا،  لا معايير لها أو ضبط اتجاه إلا ما رسم لها بعيدًا…
وتبقى رحلة الضباب ذكرى جميلة موسميّة في سجلّ الفصول، وخبرًا يُحكى مسبوقًا ب”كان”، لأنّ الشمس تشرق كلّ يوم، لكن للضباب مواقيت العبور في مواعيد المطر.

Screenshot_2015-01-19-09-44-40

Image

حين يصافحنا الحزن

 

الحزن هو إدمان الخيبة الممتدّة في شرايين الروح التي لم تعد تتدفّق فيها نبضات التمنّي

الحزن هو تجمّع ذرّات من الغرور المتهالك الذي تصدّأ مركونًا على شاطىء الأنا، ولم تعد تقرب منه إلّا موجات المجد المفقود في ذكرى ما كان.

وبين كان وصار، علّة ساكنة وسط ثلاثيّة أبديّة، ساكنة لكنّها محرّكة لمواجع الروح في سكنى خاصرتها من الأزل إلى الأبد،  شامخة لعلمها أنّها بداية ال”أنا” ونهايتها، وهي كلّ علّة لا يستغني عنها ماضٍ أو غد.

الحزن هو عتب الضمير عند اقتراف الفرح، لعدم الأهليّة والاستحقاق شعورًا بالذنب لأحقيّة الآخرين به.

الحزن هو حاجة الزرع إلى مطر بخلت به السماء، وما عاد للإنسان إلّا الدموع سبيلًا ليروي بذار الحبّ المغروسة في زمن الشحّ زوّادة الآتي من الأيّام.

الحزن هو عتب القلوب على قلوبٍ أحبّتها وسكنتها وصارت كلّها، لكن هل يخلو عام من أيلول؟!… فيبقي العتب بعضًا والحزن كلًّا.

أن يكون المرء حزينًا يعني أنّه علّق انتظاره على ساعة الحائط التي تخلّفت رقصتُها عن موعد عينيه، لمواعيد أخر.

الحزن فعل أنسنة الكيانيّة البشريّة عند بعضهم، وعند بعضهم الآخر فعل سلب ما تبقّى من إنسانيّة تشوّهت كردّ فعل عكسي بتمنّي شرب كأس الحزن للجميع.

حين يصافحنا الحزن مرّة، يستعذب السكنى بأيدينا،  فيرمي بحجارته في  بحيرة مواجعنا الساكنة، وتطفو على السطح أسرار الألم دوائر دوائر.

فنبكي على من مات حزنًا ووجعًا على ذواتنا، على ذلك الوقت السليب الذي كتب لنا برفقة من نحبّ، لن يعاد أو يستعاض.

نبكي إذا فرحنا أو نجحنا ولم نجد من نخبره بأفراحنا ونشاركه بها.

نبكي إذا فشلنا ولم نجد من يكذب علينا بأنّنا أصبنا.

نبكي إذا فقدنا براءة الطفولة واستطيبنا تفّاحة سمّمتها شهوة مغامرات المعرفة.

نبكي إذا جرحت كراماتنا في مواقف الذلّ وانكسار الكبرياء عند تسلّط الأقوياء.

نبكي حين نعي أنّنا الغصن الذي خُلع عن أمّه عند التشذيب لأنّه نما بغير اتجاه أخوته، والقصاص معلوم يشهد عليه الثمر في مآتم الشجر.

نبكي حين نرى وجع أبنائنا أو أخوتنا ومن نحبّ، وأيدينا مكبّلة لا تفقه إلّا رفع الأيدي دعاءً لاستبدال أدوارٍ نعي سلفًا أنّها عجائبيّة غير محقّقة.

نبكي حين نرى الشامتين بنا وقد حضروا يشهدون على مآسينا ويدّعون مؤاساتنا لاكتمال أفراحهم.

والبكاء كشهقة الهجران في الحبّ الأوّل، بداية إشارات الحزن، قبل أن يلبسنا جلد التمساح، ويمتصّ المياه، ولا يبقي إلّا طعم الملوحة لتعقيم جراح تنزف قهرًا  ولا تختم إلا في العالم الآخر.

وحين نتوقّف عن البكاء، نعي أنّ الوجع انتهى من مرحلة تخدير المشاعر، وأنّنا دخلنا في مرحلة غيبوبة الإنسانيّة فينا، وصار الحزن وجبة يوميّة ضرورة. والعقل استقال من مهام إيجاد الحلول.

cropped-beach2015.jpg

أصعب ما في الأمر أنّ الحزن والفرح ممزوجان في كأس الوعي، فمتى تمنّعنا عن شرب هذا الكأس، تخلّينا عنهما معًا.

لقد زرعوا الوجع في جيناتنا ورفعوا مقامه وبجّلوه، جعلوه بطلًا، ومفتاحًا لباب السموات، والموروث مقدّس، ولنا من القدّيسين التماهي… وعلّمونا أنّا كنّا يومًا في الجنّة ومنها طردنا، وأنّا كنّا سعداء، حيث لا حزن ولا مرض ولا بكاء، بل فرح وجمال وجلال، وصار مصيرنا أن نحيا تعساء، العين منّا إلى الجنّة تريد العود تنشدها، والروح منّا تعرب عن رحلة تغرّبها. أمّا الطين، فملعون ببحر رغباته غارقٌ يشقى، لا هو راضٍ بما له قسم، ولا الروح به ترضى.

لأنّ الحزن هو من يحيا فينا،  فنعيش فرحنا قناعًا مزيّفًا ونخفي حزنًا عظيمًا، يحمل إقامة غير مؤقّتة، ونبذل جهدًا مضاعفًا لإخفائه، لأنّه جبهة الممانعة في الضمير المتيّقظ لكل متعة في غفلة العقل وسهوة الحياة.

حين يعي المرء حزنه، يعي أن يد الحياة هي التي صفعته حين كان يقرّب وجهه طمعًا بقبلة منها، ليرسم الدرب الآخر إن لم يعجبه درب القدر.

حين يعي المرء حزنه، يعي أنّه يجلس على فوهة بئر الأحزان مموِّهًا غطاءها بأزاهير الابتسامات البريّة الطالعة بين أشواك القندول.

حين يعي المرء حزنه يعني أنّه ذاق الألمين وعلم أنّ آلام الأجساد وُلدت من العَرض لها من العلم دواء، وآلام الأرواح كامنة فيها كمون الجوهر في الأشياء، ليس لها بعدَ  سقمٍ من شفاء، فلا إيمان يحييها، ولا أعاجيب تعافيها.

ناتالي الخوري غريب

..

ميشال الحايك… وأزمة الإنسان المزيّف

 

                            سنون ستّ مضت، على معاد لطالما انتظره، فعبره،(1-أيلول 2005) وها نحن إلى فكره نرنو، نذكر ، ومعه ندعو، إلى امتلاءٍ بعد تجويف، لإنسانٍ عَبَثَ فيه تقليدٌ وتزييف، كان همًّا سكنه، فحاول جهدًا خلع أقنعة، علّ وجودَ بعضٍ ممّن يستمع يتّعظ.

     المونسنيور”ميشال الحايك” هذا الكاهن الموسوعي الشاعر الباحث الواعظ المتعدّد المشارب الفكرية والثقافيّة هو الحاضر الغائب، ولا نقولها من باب المفارقات البلاغيّة لانّنا لسنا في معرض ألاعيب لغويّة، ولأنّ المنطق أيضًا يرفض المفارقات، إنّما نقولها لأنّ حضوره واقع، نعيشه بذكرى صدى عظاته وأقواله ووقفاته على منبر كنيسة القديس جاورجيوس، كلّما علينا اشتدّت رياح فتنة، وعواصف تفرقة.

.

نذكره اليوم واعظًا وهو من اشتهر بمواهبه الوعظيّة، فكان الناس يتجمّعون من جميع الأقطار لسماع عظاته إن في فرنسا، – وأبرزهم جان بول سارتر- الذي كان يقطن في شارع مجاورٍ للحيّ الذي تقع فيه الكنيسة، أو في لبنان، حيث يؤمّ الكنيسة عديد المؤمنين لسماعه، ومَن لم  يتسنّ له الحضور، بديله الإذاعات تبثُّ جميع مواقفه وحكمه وعظاته.. واللهُ منبعها

أوّلًا واخيرًا، ثمّ الأمور الإنسانيّة والوطنيّة، والهدف هو الوصول إلى إنسانيّة حرّةٍ ترقى إلى الله.

نعود اليوم إلى عظاته نقرأها، وما أحوجنا إلى أمثاله في إلقاء ضوء على جرح ينزف، فلا يكتفي بالنظر على تفنّن قولٍ، بل وصف حاضرٍ له جاهدًا يسعى إلى إيجاد حلول.

نعود اليوم إلى مجموعة محاضرات ألقاها، وجمعت العام 1969 من منشورات المطبعة الكاثوليكيّة بيروت، تحت عنوان” رسالة إلى بني جيلنا” نقرأها وعلى الرغم من مضيّ أربعين عامًا على كتابتها، وكأنّه يعاني الآن زيف الإنسان المعاصر في تقليده بعد تجويفه، يقول:  

كذا في العالم الإنسان مجّوف،أمّا عندنا فهو مزيّف يحرّفه التقليد، والتقليد سهولة تأخذ من سطح الأشياء وألوانها وصيغها فتكتفي باللقب عوض الهويّة، وبالنّسَب عوض الأصل، بالقبيلة عوض الشخص، بالممتلكات بدل الأنيّات، وهذا هو التزوير على الحقّ وعلى القيم إذ توضع في غير مواضعها.

ولكثرة ما يزوّر الإنسان عندنا قد أصبحت نفسه مزوّرة، كالعملة، كالفلس المزوّر. نسبته إلى الحقّ كنسبة الذّهب المزيّف إلى الذّهب الخالص.

الإنسان يزوّر في كلّ شيء. في دينه يقلّد السّلف الصالح وليس له من اختباراتهم الوجوديّة العميقة سوى المظاهر يعرضها والطّقوس يمارسها، وقد فرغت من مضامينها الأوّلية…..

   ويقلّد في تفكيره. فما تطلع في العالم فكرة فلسفيّة أو نزعة فنّية أو نظرة سياسيّة إلّا ويقتبسها ويردّدها من خوارجها كانت في مصادرها عصارة جهدٍ وبحثٍ ومأساة حياة عند منشئيها، فإذا هي عنده اقتباس دون جهدٍ، سرقة حلال دون عناء. والفرق بينها عندنا وبينها عند أصحابها هو الفرق بين النّص والنّسخة، بين الواقع وصورته…….

    يقلّد الإنسان عندنا في تفكيره ودينه. يقلّد في دنياه. لا يظهر زيٌّ جديد في اللباس والفنّ والرقص والغناء إلّا وكان له في دورنا وشوارعنا وحاناتنا من يتلبّسون به ويتراقصون عليه. وهكذا فلا نكتفي بتقليد أسلافنا من الأمس بل بمسخ حاضر الغير في تفكيرنا وحديثنا وسياستنا وفنوننا وعاداتنا. ونحن في كلِّ ذلك أخّاذون سرّاقون، شاهدو زورٍ على حقيقتنا، نتلوّن كالحرباء بألوان كلِّ حقيقةٍ عابرة. وإذا صحّ لنا بعض شيءٍ من حلى الشّمائل والجمالات فهي مأخوذة منحولة لو نزعت عنّا لَبانَ ما في نفوسنا من قبائح وعيوب. …

 متى ترى نقلّد أجمل ما في نفسنا بعد أن قلّدْنا الجميع، فننزل صوب الأعماق نستطلع الإنسان الذي شوّه تحت كدس المآخذ والمساحيق. أم حكمٌ على الإنسان عندنا ان يظلّ عبد التقليد لا وليد التّجديد. فالويل للذين كذبوا عليه وغرّروه حتّى خان نفسه، فراح يشهد عليها شهادة زور. الويل للذين قيّموه بغير ما هو، بممتلكاته لا بماهيّته، بالطائفة أو العشيرة التي ينتمي اليها، بالحزب السياسي الذي ينتمي اليه، بثمن الثوب الذي يلبسه والسيارة التي يقتنيها. والويل لمن عوّدوه الرشوة والإباحيّة وأقنعوه بانّ عبادته لله وإخلاصه لدينه يُقاس بزخم التعصّب والبغض الذي يضمره لأبناء الأديان الأخرى. خيرٌ لهم لو يُعلَّق في اعناقهم رحى الحمار ويُزَجّون في أعماق البحر.”(انظر رسالة الى بني جيلنا،صص87-88-89)

           في كلّ مرّة نعود إلى كتاباته ندرك مدى تطلّعه إلى تصديع بعض البنى الاجتماعيّة التي ليس لها ارتكاز فكري وإعادة بنائها على أسس إيمانيّة ذات أبعاد روحانيّة ودعوته إلى إصلاح الإنسان الفرد من أجل إصلاح المجتمع.

         يبقى أن نقول في الذكرى السادسة لانتقاله، إنّ الاب الحايك كان حاملًا مشعل النور التوجيهي داعيًا الناس الى إثبات وجودهم الإنساني بالخروج من ذاتهم المزيّفة ليقفوا بها أمام مرآة أنفسهم، وهو على يقين حتميّ بأنّ الإنسان، إذا تجرّد عن كلّ زيفه الحضاريّ والأخلاقيّ والإنسانيّ، سيحقّق وجود ذاته الإنساني في مستواها الأعلى.

[1]

 

[1] -جريدة الأنوار، السنة 51، العدد 17835 الاثنين 5 أيلول 2005.

الصداقة… تاريخ صلاحيّة لا ينتهي

الصداقة الحقّ قيمة نهضويّة وفاعليّة خلّاقة وولّادة سعادة حين تكون أقوى من رابط الروح بالروح. صداقة فكر يأبى إلّا ان يتلاقح، عشق عقل يأبى إلّا أن يتغلغل في عمق الخلايا، ليس بعضها، بل كلّها. والأهمّ من ذلك، حين يعي الإنسان كلّ لحظة هذه الصداقةَ، يعي نضجه، يعي لذّة الوقت، يعاني انتظار اللقيا الذي تكافئه الكلمات والمقطوعات العازفة على شوق الفكر للفكر. تتفرّد الصداقة كونها لقاء أرواح يمكن أن قد تكون تاهت في أزمان سابقة والتقت، في كليّ تطابق بين النفس والروح

تتكسّب الصداقة متانتها حين يعي الإنسان أنّها في أوّل سبيلها، تمرّ بمقام الدهشة، فمتى زالت هذه الدهشة، بعد عميق تعارف واكتشاف زوايا وخبايا، إمّا أن تهزل حالها، وتاليًا يتمّ الانتقال بعدها الى مرحلة الروتين العلائقي، فلا تعود تليق بمقام هذا الاسم، تحت قاعدة اكتشاف العيوب لتكون إجابة أحد الشعراء:”أتطلبُ صاحبًا لا عيب فيه/ وأيُّ الناس ليس له عيوبُ”.وإمّا يتمّ الفناء في متانة بقاء الصداقة الأبدي..

لا تشبه الصداقة شيئًا آخر، لا تشبه أمرًا آخر. لأنّها تلك الطاقة المستمدّة من محبّة الآخر وإحساسك أنّ ثمّة من يقدّم لك الدعم والسند، وأنّ عينًا عليك ترعاك أبدًا، وتلك العلاقة التبادليّة والتفاعليّة في عجن الخير المطلق، وبخاصّة حين تبنى على جوهر متأصّل في نفس الصديقين تصبح أقرب ما تكون إلى روح واحدة، وثباتها حريّة قرار الآخر بين البقاء والفرار أنّى يشاء رحيلًا وهروبًا وضجرًا أو بقاء أو عودة بعد غياب، مع كلّ ما تحتّمه من تجرّد كلّي، واندفاع كلّي، ومحبّة تنمو بذاتها من دون أن تنتظر مقابلًا.

قد يعيش المرء عمرًا كاملًا، فلا يلتقي الصديق الحق، وبذلك كمن فوّت بذلك فرصة التجدّد الحياتي مع كلّ إشراقة شمس، فيكون بذلك إنسانًا فقيرًا. وعلى الرغم من أنّ الإنسان يردّد دائما لنفسه أنّه لا يريد أن يتعلّق بأحد، كي لا تكون الخسارة موجعة وقويّة بقوةّ التعلّق، فيكون اللجوء إلى الزهد بالصداقة. وهنا نستحضر ما جاء في كتاب “الحيلة لدفع الأحزان” للفيسلوف الكندي، وفيه ألّا يتّخذ الإنسان من أيّ موضوع أرضي محبوبًا لأنّ كلّ ما على الأرض فانٍ، أكان شيئًا أو إنسانًا، وتاليًا هو عرضة للزوال، ما يجعل الإنسان معرّضًا كلّ آن لخسارة ما يحبّ، من هذا الباب يصبح الزهد بالصداقة زهدًا بالحياة وليس تقليلًا من قدسيّة الصداقة أو تقليلًا من قيمة الآخر في حياته.

فالصداقة تمتّع بالحياة وتنعّم، وهي هبة من هباتها لأنّها ترادف السعادة، وهي أقصى حالات الصدق والحنان. هذا لا يعني ان تكون جميع الصداقات عميقة بالمرتبة عينها، فلكلّ إنسان حاجات وتطلّعات وأسلوب حياة وذائقة عيش فكرا وحياة وماضيًا ومشاعر وأحاسيس، وقد قال في ذلك أحد الشعراء:” ولا يألف الإنسان إلّا نظيره/ وكلّ امرىء يصبو إلى من يشاكله”. وقد تتنوّع الصداقات أو فلنقل تصنّف، على أن يكون تاريخ صلاحيّتها لا ينتهي بانتهاء حاجة المرحلة اليها.

فهناك الصديق الرفيق الذي تستمع اليه وتسانده وتدعمه وتصغي الى همومه ومشاكله وتسعى الى إرشاده وحلّ اموره.

وصديق بعيد-قريب: تتخاطب قلوبكما وعقولكما من دون تعبير عن هذا الشعور النبيل، مع تقدير صريح لمنزلة كلّ منهما في نفس الآخر، على قاعدة أفلاطون”صديقي هو شخصي الثاني”.

وصديق صديق يستحوذ على كلّ كيانك، بعد انتهاء مرحلة الدهشة، صديق يوجعك في العمق وجعه، يفرحك في الصميم فرحه، تصحو لتحاوره وتنام على أمل يقظة الشمس لتطمئن عن حاله، لتعيش معه المجد الذي قال به فولتير.

وبعد، هناك الصديق-المزيّف، الذي يعتقد أنّه يقدّم لك اسمه طبقًا شهيًّا لتكبر به، لأنّه يعتبر نفسه جوهرة نادرة تتسارع الناس اليه او تحلم بقضاء بعض الوقت معه، وانك إذا صادقته، أنت الرابح الاكبر، لحظوتك المكوث في مجالسه، أو أنّك محظوظ كونه قبل الحضور في مجلسك. ودوام وجودك إلى جانبه رهن بمدى قدرتك على أن تكون عددًا ليدين تصفّقان له إعجابًا وانك حين تخدمه تكون خدمة لنفسك، لأنّ برأيه أمثالك يجب ان يتجنّدوا لخدمته وفاء وشكرانًا للحياة على وجوده

.

وأخيرًا، ثمّة نوع جديد آخر، هو الصديق الفيسبوكي، ولنا في ذلك حديث آخر عن هذا العالم الذى بات المنتدى الاجتماعي الأكبر.

وإن كان لا بدّ من كلمة ختام، فمسكها يكون ما قاله بولس سلامة:”علّمتني الحياة أنّ الصداقةَ المحض هي قدسُ أقداس المجتمع، لأنّها بنت المحبّة، والمحبّة غرسة الله في صدور الأوادم”

أثمنُ هبات السماء، صداقاتٌ تسمو بالزمن، وتعطي الحياةَ معناها، وتحلّيها…صداقاتٌ لا تعرف الازدواجيّةَ، تفقه لغةَ الكِيان بلا كلام، حيث انكشاف كلّي أمام مرآة الذات، التفتيشُ عن الألوهة الكامنة هو القبلة، والصراحةُ الكليّة هي نعمةُ الحريّة… والشمسُ تشرق على الأسرار، وظلال العتب تستحي وتختفي، وفيء الأمان بطلٌ في دفء المحبّة التي لا تعرف زوائل وموانع

نشر في الأنوار تموز 2014

ناتالي الخوري غريب

الجنون…أجنحة الفرح

الفرح كيان، له اسم يتغيّر بتغيّر الزمان والمكان، لا يسبح إلّا في الأنهار الجارفة، ولا مصبّ.

للفرح أجنحة تحلّق وتصفّق وترقص في “منازل الرياح” فننسى أنّا كنّا يوما نمشي على الأرض…ومن يأبه. للفرح عيون تري دقائق الأمور، وتعرف كيف تغضّ الطرف عمّا يجب ألّا يُرى. لأنّه يتقنّع بألف قناع وقناع، ويتقن فنّ الاحتجاب والظهور، ليبقي لنفسه قيمة البحث الدائم عنه في ألاعيب الحضور. بسيط هو، لا يحبّ التساؤلات والإجابات المتعدّدة والتأويلات، يكتفي باللمحات والإشارات والدوران في فلك من عنه يسأل

.يتجلّى الفرح في ثلاث:

       في شتّى أنواع العطاء، والعطاء ممّا يفيض لا يعني شيئًا، العطاء ممّا نحن بحاجته

       هو السعادة الأقصى، كفلس الأرملة.

وفي الكرامة، لأنّها هي الأصل والكلمة الفصل، وما تبقّى تفاصيل.

وفي الأمان، لأنّه يُطرد الخوف على المصير، ليتسنّى لملائكة الفرح الاستئثار بالإقامة.

والفرح ينتج في مصنعين:

العقل أوّلا…لأنّ السعادة عادة، تسبقها إرادة. ولأنّنا أبناء الفرح. نحن حقًّا من نقرّر أن نكون سعداء، بتفعيل عمل ذكرياتنا الجميلة التي مضت، بتخزين مزيد من الأحداث المحبّبة في حاضرنا، بصنع غد نتوق إليه. قد يكون الفرح أمامنا ولا نراه، أو كامنًا في الاحتكام إلى الجنون في إطلاقه. لأنّ الجنون هو نشوة الحريّة التي لا يقيّدها عقل وعادة ومتوقّع. وكلّ حريّة لا تناقض العقل، بل تبنى عليه…

فيصبح الجنون ألعوبة العقل في أُلهوّة الحياة. تجليّاته متعة المغامرة في لجّة الخطر، وتأريخ البطولة في سجلّ القدر.

والجنون ليس تهمة، هو اكتمال النضج في فهم العبث، وفتح الأبواب أمام الفرح. لأنّ لذّته كامنة في تعب الآخر من العتب، والاستسلام إلى مشئية الفرح

.

في الجنون، يتمّ قبول الموت صعقًا وحرقًا لرماد يسخر من طبيعة الحياة حيث الروح يتفلّت من قفص الخلايا التي سجن فيها دهرًا.

لا يعني الجنون أنّ العقل في إجازة أو خدّر بمواد الخيبة، بل هو وعي انتقاله من إدمان إلى آخر، واتّخاذه قرار الفصل في المواقف.

الجنون هو القديس الذي يمتلك القدرة على اجتراح الأعاجيب، لا يراها إلّا طالبها الذي يشعر باختفاء جميع أعراض أمراضه. وهو شفيع المنتظرين لأنّه يشفي الإنسان من مرارة الصبر، ويريحه من شقاء، الانتظار.

الجنون هو الطيران حين يمشي الجميع، والمشي حين ينامون…هو الأمل بما يرفضه المنطق لأنه منطق من لا أمل لهم.

وبعد أن تستيقظ من جنونك، تعرف كّم الحماقات التي ارتكبتها وتحتاج الى جنون آخر ينسيك إياها، فما يكسر لا يرمّم.

ويسلبك الفرح ثلاث: غرور وحقد وحسد.

في الغرور لعنة الكبرياء التي تتآمر عليك ساعة تشاء، الزمن لك يرصد، والذكرى صدى لا يرحم.

وهذا يجعلك حاسدًا ينخرك سوس المقارنات ووباء أفعل التفضيل. ليملأ الحقد قلبك، فيتضخّم محتّلًا كلّ المساحات الأُخر، حينذاك لن يتّسع لحبّ أو سعادة ما حييت، حيث لا ينفعك عطاء أو جنون، وتصبح خسارة الفرح حتميّة وتاليًا معنى الحياة وغايتها.

 

Previous Older Entries